1- عن مفهوم الاحتضان
الاحتضان لغة من الحُضْن أو الحِضْن، بضمّ الحاء أو كسرها، وحُضْنُ الجَسَدِ ما دون الإبط إلى الأضلاع، والحُضنُ أيضا مأوى الطّير والحيوان، والحِضنُ من كُلِّ شيء: ناحيته وجانبه، وحضنا الجيش: ميمنته وميسرته اللتان تحميانه، حَضَنَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّ واحتَضَنَه (بزيادة التاء، زيادة في الفعل والحرص عليه) أي رعاه ورباه، وحَضَنَتِ الْمَرْأةُ طِفْلَهَا، أي ضمَّتْهُ إلَى صَدْرِهَا وجَعَلَتْهُ فِي حِضْنِهَا، وحضَّن البيضَ، أي جعل الطائرَ يرقد عليه للتفريخ، وتلقّاه بالأحضان: رحَّب به، وحَضَنَهُ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ: أي أبْعَدَهُ عَنْهُ، وألقى نفسَه بين أحضانه: سلَّم أمرَه إليه، واحتَضَنَه: تولّى رعايته والدِّفاع عنه، واحْتَضَنَ الفِكْرَةَ: تَبَنَّاهَا، تَوَلَّى الدِّفَاعَ عَنْهَا والتَّعْرِيفَ بِهَا، احتضنتِ الحركةُ أو الدَّعوةُ النَّاسَ: ضمّتهم وشملتهم.
هكذا يجتمع لدينا لفيف من المعاني، سواء في اتجاه المحتَضِنِ، أو في اتجاه المُحْتَضَنِ، فمن جهة المُحتَضِن؛ يُعَدُّ الاحتضان توفيرا للحضن والأمان والدفء، وضمان التربية والرعاية والحماية، فهو تبنٍّ تربوي دعوي يشتمل المُحتَضَنَ ويعتني به حتى ينضِجَ ويرشُدَ ويستوِي عُودُ إيمانِه وتقوى شَخْصِيتُه وتستقلّ. وأما معنى الاحتضان من جِهَة المُحتَضَنِ، فهو استعداد وشعور بالحاجة إلى الحِضن، وتسليم للنفس ثقةً في المُحْتَضِنِ ومَحبَّةً له، وطلبا لما يحوزُهُ حِضنُ قَلْبِهِ من دفءٍ وأمان، وهو دخول في عُهدة معنوية وحماية روحية قلبية فكرية.
ويجتمع لدينا من هذين الزاويتين، شروط ومقتضيات يشكل توفرها ركيزة نجاح وسداد، وعلامة توفيق ورشاد، وما دامت عين الدعوة، حريصة على تصيُّدِ النجباء، وذوي الاستعدادات العالية، وأصحاب الكفاءات، فإننا سنتجاوز الحديث عن شروط المُحتَضَن، تلك الشروط التي تلخِّصُها الكلمة البليغة التي دأب الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى على ترديدها: “لا فائدة من ضرب الحديد البارد”، ولذلك، فالاحتضان العام للأمة، هو رعاية عامة ومخالطة وتعليم وتربية وصبر يتصدى له كل مؤمن داعية حسب مقام شاهديته بالقسط بين الناس، وحسب قوته واستعداده ودرجات تحمُّلِه وما يتاح أمامه من فرص وإمكانيات وإسناد.
2- الاحتضان تربية شاملة ودعوة راشدة
الاحتضان تربية، يُرشّحُ فيها المُحتَضِنُ نفسَهُ لينوب عن الآباء في تربية أبنائهم ورعاية أحوالهم وأخلاقهم، عسى أن يكونوا من ذرّيته التربوية الدعوية الصالحة التي تدعو له وينتفع بها في الآخرة، إضافة إلى تعزيز صف المؤمنين بنماذج مُجَاهِدَة نوعية، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “واجبنا أن نستقبل هذا الخلق الجديد بما له على المؤمنات والمؤمنين من حق الرعاية والتربية وحسن التوجيه. ذلك أن الهداية إن كانت منه سبحانه لا من غيره، فإنها تصيبُ من شاء على يد من شاء: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ قرارا من عندك، إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قدَراً وسنة من عندي. الهداية والتوجيه وتربية الشخصية لها أمومة وأبوة كما لخلق الجسم أمومة وأبوة” 1.
والاحتضان دعوة، تتطلب مجموعة من المؤهِّلات، أساسُها الاستعداد والكفاءة، ومادّتُها التوفيق الربّاني، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا” 2.
وروى سيدنا سهل بن سعد أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: “لَأُعطِيَنَّ الرَّايةَ غدًا رجُلًا يفتَحُ اللهُ على يدَيْهِ” قال: فبات النَّاسُ ليلتَهم أيُّهم يُعطاها فلمَّا أصبَح النَّاسُ غدَوْا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كلُّهم يرجو أنْ يُعطاها فقال: “أين علِيُّ بنُ أبي طالبٍ؟” قالوا : تشتكي عيناه يا رسولَ اللهِ قال: فأرسِلوا إليه فلمَّا جاء بصَق في عينَيْهِ ودعا له فبرَأ حتَّى كأنْ لَمْ يكُنْ به وجَعٌ وأعطاه الرَّايةَ فقال علِيٌّ: “يا رسولَ اللهِ أُقاتِلُهم حتَّى يكونوا مِثْلَنا؟” قال: “انفُذْ على رِسْلِك حتَّى تنزِلَ بساحتِهم ثمَّ ادعُهم إلى الإسلامِ وأخبِرْهم بما يجِبُ عليهم مِن حقِّ اللهِ فيه فواللهِ لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ” 3.
“اُنْفُذْ”: بما تحمله من سلاسة غشيان أوساط الناس، وحسن الفهم لواقعهم، ودراية التحرك بينهم، (على رِسْلِك): بما تحمله الكلمة من تؤدة واتزان ورفق، هي من صميم شخصية الداعية المحتضن، “حتَّى تنزِلَ بساحَتِهم”، حتّى تُفيد استغراقا زمنيا مناسبا، وحكمة اختيار اللحظة المناسبة والتوقيت الجيد، والنزول، بما يعنيه؛ تواضُعٌ واقتراب وقُربٌ وانبساط، ومخاطبة للناس بما يفهمون، وفي ساحتهم: في ميادينهم وأفضيتهم ومنابرهم ومجالات اهتمامهم، بما يفيد انفتاحا وتغلغلا وتميزا في كل المجالات وإحكاما لكل ما تتطلبه الدعوة من علوم وفنون ونموذجية في كل خير ومشترك آدمي، وبعد ذلك يأتي التدرج الحكيم الباني في عرض الدعوة، بالحرص نفسه الذي يلتزم به الناس في طلب الفضل والأجر الجزيل.
3- من خصال المحتَضِن
يتركّز حديثنا في هذا المقال القاصد بحول الله تعالى، على البحث عن شروط إنجاح احتضان المدعُوِّينَ المُجْتَبينَ ابتداءً، والذين يحتاجون حضنا يستكملون فيه تربيتهم ويستأنفون فيه تعليمهم، ويتدربون فيه على ما ينتظرهم من مهام دعوية مختلفة، ويسترشدون طلبا للنضج والنجابة ورفع درجة مجموعهم التربوي السلوكي من تحصيل شعب الإيمان.
وقد اخترنا أن نتحدث هنا عن فئة الشباب بشكل خاص، وهي الفئة التي نصرت دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بما تملكه من سرعة الاستجابة، وسلامةٍ من رواسب المحيط المانعة وعوالِقِها الحاجبة، وهي الفئة التي يجب أن تحوز قيمةً كُبرى في استراتيجية الدعوة، لارتفاع منسوب استعداداتها، وقربها من الفطرة، وحيوية المرحلة العمرية التي تمرّ منها، وتوثّب قواها وطاقاتها، وكذا لآفاقها الواعدة المنتظرة..
وأول ما تجب الإشارة إليه في عملية الاحتضان، هم المحتَضِنُونَ أنفسُهُم، فنظرا لخصوصية الفئة المستهدفة (أي الشباب)، فإن المتصدِّين لهذه المهمة يجب أن يكونوا على درجة رفيعة من الخصال المطلوبة في المجال، ويتوفرون على مجموع طيب من الصفات، ويحوزون عددا من المؤهلات الضرورية لأداء المهمة أحسن أداء، وهي أمور تدخل في إطار الإعداد اللازم، والتدبير الإحساني المطلوب، والذي لا بدّ له من فَرْشٍّ تربوي، أساسُهُ سموُّ البواعث، وحسن التوكل على الله تعالى، ودوام التضرع والافتقار، ليتوّج الله الجهد بالثمار الطيبة، ويفيض من نِعمه ويزيد بكرمه سبحانه عزّ وجل، ومن أهم هذه الصفات والمؤهلات: اتِّقادُ الجذوة والهمّ الصادق، والميلُ إلى العمل الميداني والإجرائية، وسَعَةُ التحمُّل، وخُلُقُ السخاء، مع ضرورة رسوخ الثوابت، وتوفر حد معقول من النموذجية، وكل ذلك ينبغي أن يتأسس على نضج مقبول في استيعاب التصور وتوازن الفهم، مع اتصاف عفويٍّ بخاصية التواصل والانفتاح.
4- برنامج الدعوة والاحتضان
لا ينبغي أن نترك برنامج الدعوة في صفوف الشباب عرضة للارتجال المخل، أو التسرع والتلفيق، أو الارتهان للنوازع والأهواء، والميولات الخاصة، ولا ينبغي أن يتم التراخي فيما يجب أن يتطلب منا الحسم، أو الميل إلى الدّعة والتضعضع باسم التدرج والانفتاح، أو التنكّب عن سبيل الجدية والقوّة، بالتّيه في فرط التنشيط والترفيه، فالخطر كل الخطر أن نتعفَّف عن إحكام الأصول متعلّلين بتغيُّر الأحوال وتبدُّل الأجيال، إذ لا تستقيم تربية، ولا تستوي دعوة، إن لم تُبْنَ على مهامز متينة، وتستند إلى أركان مكينة، ومن أهم هذه الأسس والثوابت اللازمة لأي برنامج جِدّي يروم بناء الرجولة لا الفسولة، ويبتغي إعداد فسائل القوة لا الشخصيات المائعة الرخوة، غرس ذكر الله تعالى والتربية عليه، إذ هو سقيا القيم ورواء أغصانها، ولا بد معه، من ترسيخ ذكر الآخرة ومشاهدها، حتى تصير مرآة ومعيارا للقياس وبعدا حاضرا في كل حين، ولنحذر من التعفّف عن إيراد تلك اليقينيات الغيبية أو يشوّش علينا إكراه من يهوى الإكراه، أو غلبة النِّذارة والتخويف على مناهج البعض ومذاهبهم، فإن الأصل يظل أصلا، ولا ينبغي التفريط فيه بأيّ وجه من الوجوه، فإنما يُؤتي من يؤتى من غياب وازع الآخرة، وغياب استحضار مشاهدها، ولا معنى للأصلين اللَّذَيْنِ أوردناهما، إن لم يثمرا تربية على الأخلاق، وتركيزا على أسسها الكبرى، بدءًا برضى الوالدين، وتحرّي الصّدق في الأقوال والأفعال، وتزكية خلق الحياء والعفّة، وكل ذلك، ينبغي أن تتم رعايتُهُ وفق تصورٍ جامعٍ للهمِّ الفرديِّ والجماعيِّ معا، في عقد واحد تكون ثمرتُهُ تعميقَ الولاء للدعوة ومشروعها، وخروجًا لطيفا واضحا من ربقة الولاءات الفتنويّة المُمِيلة، تحزُّبًا لله تعالى، وإخلاصا للوجهة، ووضوحا نربّي عليه حتى يقوى وينضِجَ ويستَوِيَ خطًّا لاحبًا لا تلتوي به السبل ولا تتفرّق.
5- لوازمُ مُصاحِبَة
ومن لوازم برامج دعوة الشباب، بما هم فئة عمرية حيوية للغاية، ونفوس متوثّبة، وشخصيات في طور النشوء والاستقواء، أن يتم التركيز على الفوائد العملية، وأن يعتمد تنزيل تلك البرامج على مفهوم الإشراك، وتتضمن موادَّ ومهارات للتدريب عليها والإسهام في إعدادها، دون إغفال لضرورة انفتاح تلك البرامج على الواقع ومواكبتها للتطورات، دون انفكاك عن محور الرّبط ووجهة البوصلة.
على أن هذه التوصيات، لا تعفي المحتضنين من التربّص اليقظ، والمتابعة الذكية الرفيقة، لشخصيات المُحتَضَنِين، تطويرا وترشيدا وتسديدا وتوجيها، ومن أهم ما ينبغي التركيز عليه أمور ثلاثة في مصاحبة المُحْتَضَنِين: الإسهام في تقويم شخصية المُحتَضَن وترشيد سيرها العام، كما لا بد من العمل الموازي لاكتشاف الطاقات ورعاية المواهب ومواكبة تطورها، ولا أنفع وأجدى، في تحقيق هذين الهدفين، من الاقتراب اللطيف من الأفراد ذاتيا واجتماعيا.
إن منطق الدعوة وقوتها يتطلب سلاسة في الخطوات، وتناغما في الإجراءات، وتنسيقا بين المتدخلين، وتوسيعا لفرص الإدماج والتفعيل، ولا بد في هذا الأمر من تعاون وتكامل وإشراك للفاعلين، سعيا إلى ربط الشاب والشابة بقاعدة واسعة من المؤمنين، توسيعا لدائرة الصحبة والمحبة والاستمداد والتعلم والرعاية، وإحكاما لمرونة اجتياز المراحل والحلقات، وإنقاذا من مطبّات المنعطفات. ويقتضي هذا الأمر تكاملا في الأدوار بين الفعالين أفرادا ومؤسسات، وتنسيقا مسعفا بينهم، وسلاسة ترتبط بموجبها حلقات العمل بمرونة وفاعلية، ليؤتي كل جهد أكله ويعمّ فضله.
إن من ضمانات النجاح، بعد توفيق الله تعالى وإحكام التدبير، السعي إلى دعم خطّة الاحتضان بمجموعة من العناصر المساعدة، التي قد تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن أشخاص إلى آخرين، لكن هناك دوما مجال لبعض العناصر المشتركة، ومنها دراسة البيئة وخصوصيات المنطقة التي تتم فيها عملية الاحتضان، وفهم خصوصيات المرحلة العمرية وما ينبغي للتعاطي معها، مع فهم خصوصيات الجيل المعاصر واستيعاب ما يعانيه ويتهدّده وما يغريه ويجتذبه، وينبغي أن يؤطر العملَ الاحتضانِيَّ إبداعٌ في الوسائل وتجديد في الأشكال، وتجاوز للنمطية والروتين، إضافة إلى حسن توظيف التواصل مع محيط المُحتَضَن وأقاربه.