الالتزام المصلحي بالنصوص في فقه الخلفاء الراشدين 2/2

Cover Image for الالتزام المصلحي بالنصوص في فقه الخلفاء الراشدين  2/2
نشر بتاريخ

المبحث الثاني: الالتزام بروح النص

والالتزام بروح النص معناه البقاء ضمن دائرة النص لكن ليس بالمعنى الظاهر الذي يتبادر إلى الذهن من أول نظرة إليه، إنما بالغوص في معانيه وسبر أغوارها والعدول به عن ظاهره إلى باطنه.

وإذا كان حديثنا سابقا تعلق باتباع الدليل والنص بالمفهوم العام كما هو، فلأن ذلك أتى على الأصل كما هو مقرر عند جمهرة الفقهاء والأصوليين أن النص يبقى على ظاهره حتى يأتي الدليل على خلافه.

بينما سينصب حديثنا الآن حول أصناف هذا النص ومعانيه وكذا الأسباب الداعية إلى الخروج به عن ظاهره، كل ذلك في سياق الحديث عن التزام الخلفاء الراشدين بروح النص وجوهره.

ويقسم جمهور الأصوليين ألفاظ الدليل من حيث دلالتها على المعنى إلى قسمين: ظاهر ونص. فالنص هو الذي لا يحتمل التأويل ودلالته على معناه دلالة قطعية، ولا يعدل عنه إلا بنسخ. أما الظاهر عندهم فهو الذي يحتمل التأويل، ودلالته على معناه دلالة ظنية راجحة، ولا يصرف اللفظ عن المعنى الظاهر إلا بقرينة، فيصير بذلك مؤولا. ومن أمثلة تأويل الظاهر تقييد مطلقه وتخصيص عامه.

فالمطلق هو الذي يدل على فرد شائع أو أفراد على سبيل الشيوع، ولم يتقيد بصفة من الصفات 1 . وعرفه الآمدي بأنه عبارة عن النكرة في سياق الإثبات 2 . والمقصود هو الماهية أو الحقيقة، بحسب حضورها في الذهن بقطع النظر عن تقييدها بصفة من الصفات فيكون المطلق مساويا للنكرة ما لم يدخلها عموم.

والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل يدل على التقييد 3 ، فإن دل الدليل على تقييد المطلق عمل بالقيد، كما في قولـه تعالى: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْن فإن الوصية وردت مطلقة دون تقييد بمقدار معين، فقام دليل بتقييدها بالثلث.

أما العام فهو اللفظ الذي يستغرق جميع ما يصلح له من الأفراد، ويكون إما بلفظ الجمع أو لفظ الجنس أو الألفاظ المبهمة أو بدخول الألف واللام على الاسم المفرد 4 . ويبقى -هو أيضا- على عمومه حتى يرد ما يوجب تخصيصه، فإذا قام دليل على صرفه عن معناه العام خصص باتفاق جمهور العلماء.

واتفقوا أيضا على أن النص العام يخصص بمخصصات عدة ذكروا منها النص والإجماع وقول الصحابي والعقل والعرف والعادة والحس وسموها مخصصات مستقلة، أي أنها تكون جزءا من النص العام، وذكروا مخصصات أخرى غير هذه سموها مخصصات غير مستقلة لأنها جزء من النص العام، كالاستثناء الوارد في النص، والشرط والغاية والصفة…

وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على إجراء ألفاظ القرآن والسنة على عمومها حتى يقوم دليل على الخصوص، فإذا قام هذا الدليل تمسكوا بالتخصيص ولم يبالوا. فمن أجل ذلك رد الصديق رضي الله عنه استدلال آل البيت بعموم الجمع المضاف، لإرث فاطمة رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أرض فدك والعوالي، بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ورفض إعطاء فاطمة هذه الأرض لأنه رأى أن هذا النص عام خصصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولـه: “نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة” 5 .

وهذا وإن كان داخلا في التزام الصديق الحرفي بالنصوص من باب ما، إلا أن دخوله هنا من باب أولى لأنه عدل عن الأخذ بالآية وهي قطعية الثبوث إلى خبر آحاد وهو ظني الثبوت والدلالة.

وقد أجاز جمهور العلماء – سوى الحنفية – تخصيص العام القطعي الثبوت بالدليل الظني كخبر الواحد والقياس، وقالوا إن دلالة العام على أفراده ظنية، فيجوز تخصيصه بالدليل الظني من خبر الواحد والقياس 6 .

وإلى هذا ذهب عموم الصحابة حينما خصصوا آيات كثيرة بأحاديث آحاد، مثل قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ فقد خصصوه بحديث النهي عن الجمع بين المحارم: “لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها” 7 . وخصصوا آيات المواريث بحديث: “لا يرث القاتل شيئا” 8 ، وحديث “لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم من الكافر” 9 وخصصوا آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى بحديث “لا يقتل مسلم بكافر” 10 ، وآية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا بحديث “تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا” 11 وحديث “ادرأوا الحدود بالشبهات” 12 ..

ومن مخصصات الصحابة للنص العام بالإجماع سقوط الجمعة على العبد والمرأة في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه. وكذلك خصصوا قولـه تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ بإجماعهم على أن العبد لا ينكح إلا امرأتين. فعن ابن جريج قال: أخبرت أن عمر بن الخطاب سأل الناس: كم ينكح العبد؟ فاتفقوا على أن لا يزيد على اثنتين 13 . كما أنه لا يطلق إلا تطليقتين تخصيصا لقوله تعالى الطَّلاَقُ مَرَّتَان.

وكذلك سائر الأحكام التي هي على هذا النحو في حق العبد والأمة فقد نصفوها تخصيصا لعموم الآيات الواردة في حق عامة المكلفين بالإجماع، ومستندهم في ذلك القياس على تنصيف العقوبة في حق الإماء في قوله تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ، فعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: لقد أدركت أبا بكر وعمر وعثمان (وكذا عليا) رضي الله عنهم ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك في القذف إلا في أربعين 14 .

وروى الإمام مالك وغيره عن الزهري أنه سئل عن حد العبد في الخمر فقال: بلغني أن عليه نصف حد الحر في الخمر، وأن عمر وعثمان وعبد الله بن عمر قد جلدوا عبيدهم نصف حد الحر في الخمر 15 .

وفي حد الزنا يجلد العبد والأمة خمسون جلدة متزوجَين كانا أم غير متزوجين، فعن ابن أبي ربيعة المخزومي قال: أمرني عمر في فتية من قريش فجلدنا ولائد 16 من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا.

ومن بين مخصصات النص العام نجد المصلحة المرسلة التي لا يشهد لها نص خاص. وقد اختلف الأصوليون في هذا النوع من التخصيص تبعا لا ختلافهم في أصل الإستصلاح. فمن قال بهذا الأصل في غياب النص فإنه جوز لتلك المصلحة المرسلة أن تخصص نصا عاما إذا ما وجد تعارض بينهما. أما من لم يقل به في غياب النص فإنه لرفضه له في معارضته للنص وتخصيصه له من باب أولى.

وتخصيص النص بالمصلحة المرسلة قال به المالكية والحنفية عند التعارض بينهما 17 ، وقال به الشافعية في حالات خاصة كاعتراض سبيل تطبيق النص ضرر عارض يصل إلى درجة الاضطرار، فعندئذ تحكم قاعدة الضرورات، واختيار أهون الشرين 18 . ومثلوا لذلك بمثال التترس المشهور 19 .

والصحابة والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم قد أعملوا هذا النوع من التخصيص، خاصة الفاروق رضي الله عنه.

ومن أمثلة ما خصصوا به النص العام في المصالح المرسلة قبولهم لشهادة النساء وحدهن فيما لم يطلع عليه غيرهن، كالجرائم والجنايات التي تقع في حماماتهن، وشهادة القابلة على الولادة وتعيين الولد عند النزاع فيه، والله عز وجل يقول: فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. فخصصوا هذا النص العام الذي يشترط في الشهادة عنصر الذكورة بأن يكون شهود الإثباث رجالا فقط، أو رجالا ونساء معا.

وروى ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. فروي عن الفاروق إجازته شهادة النساء في الطلاق 20 . كما أجاز شهادة رجل مع نساء في نكاح 21 . وقبلوا هم الأربعة شهادة القابلة وحدها في استهلال الطفل يوم الولادة 22 . وأخذ عثمان بشهادة النساء في أمور الرضاع وفرق بين أهل أبيات بشهادة امراة 23 .

وقضى علي بالدية في حق امرأة وطأت صبيا مسجى فقتلته، فشهدت عشرة نسوة بذلك فقبل شهادتهن 24 .

وإذا كان مقصد الشريعة من الشهادة هو ضمان مستحقات الناس وإظهار الحقوق ودفع ما قد يلحق بها من الأذى والضرر، فإن الأخذ بعموم النص في الشهادة وعدم اعتبار ذلك في حق الحوادث التي تقع للنساء وحدهن دون أن يكون للرجال بينهن حضور، من شأنه أن يضيع حقوقا ويعرضها للهضم والإزهاق، وصيانة هذه الحقوق مصلحة شرعية من الضروريات التي نصت عليها الشريعة. لذا كان تخصيص هذا النص العام بتلك المصلحة المرسلة حافظا لتلك الحقوق وضامنا لها، فوجب اعتباره.

وهذا مثال واضح على التزام الخلفاء الراشدين بروح النص وعدم الالتفات إلى الظاهر والمبنى إذا ما خالف الجوهر والمعنى.

ومن مخصصات النص العام أيضا، نجد أصل سد الذرائع. وسد الذريعة موقعه وجود المفسدة لأن الذرائع هي ما يفضي إلى فساد سواء قصد ذلك أم لا. وإن كان هذا الأصل داخلا ضمن عموم المصلحة لأن حسم الفساد فيه مصلحة وجب جلبها، إلا أننا نميزه بالحديث عما سبق تماشيا مع ما درج عليه عامة الأصوليين.

ومن الأمثلة التي التزم فيها الخلفاء الراشدون بروح النص وجوهره باعتمادهم على تخصيص هذا النص العام حينما يكون الالتزام به حرفيا مفض إلى إخراجه عن المقصد الشرعي منه، نسرد ما يلي:

* عدم قطع السارق عام المجاعة

إن قطع السارق حد من حدود الله تعالى نص عليه القرآن الكريم في قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا. كما نص عليه حديث: “والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” 25 .

وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قطع الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه من بعده، ثم قطع باقي الخلفاء الراشدين.

فإذا كان هذا الحد قد ثبت بنصوص الكتاب والسنة وعمل الخلفاء الراشدين فهل النص الذي ثبت به هذا الحد قطعي الدلالة لا يحتمل التأويل، أم أنه ظني الدلالة له وجوه تخصصه أو تقيده؟

والواقع أن هذا النص ظني الدلالة وهو ليس نصا بالمعنى المقابل للظاهر، بل هو عام قابل للتخصيص. ومخصصات هذا النص كثيرة تطرق إليها الفقهاء في معرض حديثهم عن شروط قطع السارق, وتحدثوا عن مقدار المال المسروق والمكان الذي سرق منه ونوعية العلاقة التي تربط السارق بالمسروق منه أو أية شبهة أخرى تخصص حكم القطع في حق السارق 26 .

وضمن هذه المخصصات يندرج قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة 2728 .

فاجتهاد عمر بن الخطاب في إسقاط الحد عن السارق عام المجاعة لم يكن إلغاء للنص ولا خروجا عنه بقدر ما كان تخصيصا لعمومه بوجود شبهة المجاعة. فقد كان مجتهدا في النص بفهمه وسبر أغوار دلالته واتباع روحه وجوهره. فهو رضي الله عنه خصص عام الآية بحديث آحاد ظني الثبوت والدلالة، لتعارض الدليلين في تلك الواقعة.

* قتل الجماعة بالواحد

قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى.

ظاهر الآية فيه تشريع لإزهاق نفس القاتل مقابل نفس المقتول، فحكم القتل فيها عام يحتاج إلى تخصيص وظاهر يحتمل التأويل. فالنص القرآني جاء ليقرر العدل المطلق في القصاص وهو أصل من الأصول العامة التي أتت به الشريعة الإسلامية.

وقد أحسن الدكتور البوطي حينما دقق في معنى الآية وتوصل إلى أنها تحمل دلالة واضحة على حكم قتل الجماعة بالواحد. وإليك قوله بالحرف: “علق الله في الآيتين حكم القصاص بالقتل على قتل مثله، فجعل القتل علة القصاص، وعليته ثابتة بطريق النص، لأن الآية دالة عليها بباء السببية. فمعنى الآية: تقتل النفس بقتل النفس، أو يقتل الحر بقتله الحر. والقتل إنما هو الفعل الذي يؤدي إلى إزهاق الروح. ومما لا ريب فيه أن كل فرد من الجماعة التي اشتركت في قتل الواحد قام بالفعل المزهق للروح لو لم يشاركه في فعله أحد…” 29 .

وإلى هذا ذهب الفاروق رضي الله عنه في اجتهاده في فهم هذا النص، وذلك حينما قتل ستةُ رجال وامرأةٌ بصنعاء رجلا فقتلهم به، وقال: “لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا” 30 .

وما ساعد الفاروق على هذا الاجتهاد – أيضا – حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: “لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار” 31 فقد اقتضى عنده توعد الله المشتركين في قتل المؤمن بالعذاب إنزال العقوبة عليهم في الدنيا قبل الآخرة.

وكان الفاروق قد استشار الصحابة في أمر هؤلاء النفر السبعة الذين قتلوا فقال له علي: “يا أمير المؤمنين، أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور 32 ، فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا، أكنت قاطعهم؟ قال: نعم، قال: فذلك، فكتب عمر إلى يعلى – عامله على اليمن – بقتلهم جميعا” 33 .

فعلي رضي الله عنه برأيه هذا يكون متفقا مع عمر في قتل الجماعة بالواحد، بل إنا نجده يحكم بنفسه بالقتل على ثلاثة اشتركوا بقتل رجل” 34 .

وإلى هذا ذهب باقي الخلفاء الراشدين وجماعة الصحابة، ولم يثبت مخالفة أحد منهم لعمر في ما ذهب إليه، وسماه الجصاص إجماعا فقال: ثبت (ذلك) من غير خلاف ظهر من أحد نظرائه (عمر)، مع استفاضة ذلك وشهرته عنه. ومثله يكون إجماعا 35 .

وقد وافقه فيما بعد جمهور فقهاء الأمصار، ومنهم مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وغيرهم إلا الظاهرية 36 .

* الطلاق الثلاث بلفظ واحد

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: “كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم” 37 .

فكيف نفهم اجتهاد الفاروق هذا، وهل هو مخالف لنص من كتاب أو سنة؟

وللجواب عن ذلك نشير إلى أن قوله تعالى: الطلاق مرتان ليس فيه ما يدل بالقطع على أن تتالي المرات في الطلاق شرط لوقوعه وذلك باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة لسنا في حاجة إلى سردها كلها 38 ، أقتصر على دليل واحد من الكتاب وبه يتضح المقال، وهو قوله تعالى: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بعد قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن وقوله: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا في الآية التي تلي ذلك.

وتفسير ذلك – كما روي عن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة – بأن الزوج الذي يطلق بغير العدة أو لم يفرق بين الطلقات كما أمره تعالى، فهو ظالم لنفس وأن التزام ذلك هو من التقوى التي جعل الله لصاحبها مخرجا من الضيق الذي يلحق به عند الندم، والمخرج هنا هو الرجعة 39 .

وبهذا يكون الفاروق محقا حينما قال: “قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة”، وما العجلة إلا نوع من الظلم للنفس يستحق صاحبها أن يعاقب عليها إذا أدى به الأمر إلى الاستهانة بألفاظ الطلاق وتعد حدود الله.

فلما كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه وصدر من خلافة عمر رضي الله عنه يتقون الله في الطلاق فقد جعل الله لهم مخرجا. لكن لما تتابعوا في ذلك وتركوا تقوى الله في أمر الطلاق وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله أجرى الله على لسان الخليفة الراشد شرعا، فألزمهم بذلك، وأبقى الأمر الذي جعلوه في أعناقهم كما جعلوه 40 .

وذلك بالضبط ما قام به الفاروق حينما أتاه رجل طلق امرأته ألف طلقة. فقال له عمر: أطلقت امرأتك؟ قال: لا، إنما كنت ألعب. فعلاه عمر بالدرة وقال: إنما تكفيك من ذلك ثلاث فأوقعها عليه 41 .

فهل يكون رضي الله عنه بعد ذاك مخالفا لنص من كتاب أو سنة؟ كلا إنه لم يكن سوى مجتهد في فهم النص أو النصوص التي بين يديه.

وافقه عليه جمهور الصحابة لما علموه من حسن سياسته رضي الله عنه وما رأوه هم أيضا من تغير الزمان وفساد أحوال الناس وتتابعهم على ذلك الأمر المشين. ووافقه على ذلك أيضا جمهور الفقهاء في إيقاع الثلاث المجموعة ورمي من قال بغيره بالشذوذ كما وصف بذلك القرطبي أهل الظاهر 42 .

فالفاروق رضي الله عنه – ومن وافقه من الخلفاء الراشدين – نظروا إلى النص العام المطلق الطلاق مرتان فقيدوه بقوله تعالى: ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.

والأمثلة على التزام الخلفاء الراشدين بروح النص وجوهره وعدم الوقوف عند أشكاله وحروفه حينما يقتضي الأمر ذلك، كثيرة ولا يسعنا المجال هنا لذكرها كلها، ففيما أوردناه كفاية في الدلالة على ما قلناه.


[1] رشاد الفحول ص: 200.\
[2] لإحكام للآمدي 3/5.\
[3] رشاد الفحول ص: 282.\
[4] رشاد الفحول ص: 197 والإحكام للآمدي 2/217.\
[5] صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب حكم الفيء (رقم 1775) 3/1378 وصحيح ابن حبان 11/153 و سنن البيهقي الكبرى 6/298 و السنن الكبرى للنسائي 4/65.\
[6] رشاد الفحول ص: 267-277 والإحكام للآمدي 2/375 والمستصفى ص: 98.\
[7] صحيح البخاري كتاب النكاح (رقم 4819) 5/1965 وسنن الدارمي 2/183 وسنن ابن ماجه 1/621 و المعجم الأوسط 4/336 ومسند أحمد 1/378.\
[8] سنن البيهقي الكبرى 6/220 وسنن أبي داود 4/189 ومصنف ابن أبي شيبة 6/281.\
[9] سنن الدارقطني 3/62 ومصنف ابن أبي شيبة موقوفا على عمر وعلي 6/284 ومسند أحمد 5/201.\
[10] صحيح البخاري كتاب الديات (رقم 6517) 6/2534 وسنن الترمذي 4/24 وسنن البيهقي الكبرى 8/28.\
[11] صحيح ابن حبان 10/309 وسنن البيهقي الكبرى 8/254 وسنن أبي داود 4/136 والسنن الكبرى للنسائي 4/336.\
[12] مصباح الزجاجة 3/103 وسنن ابن ماجه 2/850 وسنن البيهقي الكبرى 8/238 بألفاظ أخرى.\
[13] مصنف عبد الرزاق 7/274 وسنن البيهقي الكبرى 7/158 وكتاب السنن لسعيد بن منصور 1/239 والمحلى 9/444.\
[14] سنن البيهقي 8/251 ومصنف عبد الرزاق 7/437 وسبل السلام 4/17.\
[15] الموطأ 8/842.\
[16] جمع وليدة وتطلق على الجارية والأمة وإن كانت كبيرة (لسان العرب مادة ولد).\
[17] انظر تفصيل ذلك في كتاب: الاستصلاح لمصطفى الزرقا ص: 91-92.\
[18] نفس المرجع السابق ص: 90.\
[19] المستصفى للغزالي ص: 176 والإبهاج للسبكي 3/178.\
[20] تفسير القرطبي 1/460 ومصنف ابن أبي شيبة 4/516 وكتاب السنن لسعيد بن منصور، ص: 256.\
[21] مصنف عبد الرزاق 8/331.\
[22] الأم للشافعي 6/267 ومصنف عبد الرزاق 8/334 ومصنف ابن أبي شيبة 4/330 وتبصرة الحكام 1/242 والطرق الحكمية لابن القيم، ص: 227 والمغني 10/161.\
[23] مصنف عبد الرزاق 7/482 والمغني 8/153 والمبدع 8/180 وكشاف القناع للبهوتي 5/456.\
[24] مصنف ابن أبي شيبة 5/466.\
[25] صحيح مسلم كتاب الحدود باب قطع السارق الشريف (رقم 1688) 3/1315 وصحيح البخاري كتاب الحدود باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (رقم6406) 6/2491.\
[26] ضوابط المصلحة 131.\
[27] عام سنة هو عام المجاعة والجدب ومن قوله تعالى: {ولقَد أخَذْنا آل فِرْعُون بالسِّنين ونَقْص من الثَّمَرات} (الغريب لابن قتيبة 1/599).\
[28] أعلام الموقعين 3/11.\
[29] ضوابط المصلحة 135.\
[30] صحيح البخاري كتاب الديات باب إذا أصاب قوم من رجل 6/2527 وسنن البيهقي الكبرى 8/40 وسنن الدارقطني 3/202.\
[31] سنن الترمذي 4/17 و تفسير القرطبي 2/51.\
[32] الناقة قبل أن تنحر (الفائق 1/211).\
[33] أعلام الموقعين 1/213 ومصنف عبد الرزاق 9/477 والإحكام لابن حزم 7/462.\
[34] المغني 9/334 وفتح الباري 12/200 وأعلام الموقعين 1/185 والمدونة الكبرى 16/101 وفتح القدير 8/278.\
[35] أحكام القرآن للجصاص 1/162.\
[36] أعلام الموقعين 3/125 والاعتصام 2/361.\
[37] صحيح مسلم كتاب الطلاق باب طلاق الثلاث (رقم1472) 2/1099 والمستدرك على الصحيحين 2/214.\
[38] فقد تكفل البوطي بذلك في ضوابط المصلحة ص: 136-139.\
[39] انظر ذلك في ضوابط المصلحة ص: 137.\
[40] أعلام الموقعين 3/37.\
[41] نيل الأوطار 7/15.\
[42] تفسير القرطبي 3/129.\