المحور الرابع: العقيدة في مرآة السياسة
احتاج تبرير الانقلاب وتسويغه إلى تفسير لمسألتي الإيمان والعمل، والجبر والتخيير.
1. فبالنسبة للمسألة الأولى أوعز المستبدون إلى “علمائهم” و”متكلميهم” القول بعدم دخول العمل في مسمى الإيمان، وأنه ليس ركنا من أركانه، وصاغوا هذا القول في قاعدة هي أقرب إلى الشعار كي يسهل جريانها على الألسنة “لا تضر مع الإيمان معصية”، ولذلك وجدنا أن أبرز وأوضح تعريف للإرجاء أنهُ إرجاء العمل عن درجة الإيمان، وجعله منزلة ثانية بالنسبة للإيمان، لا أنهُ جزءٌ منه. وأن الإيمان يتناول الأعمال على سبيل المجاز، بينما هو في حقيقته مجرد التصديق. وهذا التعريف مأخوذ من معناهُ اللغوي؛ “أي بمعنى التأخير والإمهال” 1، قال الإمام الزهري: (ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من هذه –يعني الإرجاء) 2 سئل النضير بن شميل عن الإرجاء فقال: “ذلك دين يعجب الملوك” 3، وبهذا الاعتبار عد الأستاذ محمد قطب رحمه الله الفكر الإرجائي “أشدُّ خطراً على العقيدة الإسلامية والحياة الإسلامية من كل معضلات الفلسفة التي دخلت في دراسة العقيدة” 4، وتجلى ذلك الخطر في الحرية المطلقة التي كان المستبدون يتحكمون بها في رقاب الناس وفي أموالهم وهم آمنون من أي محاسبة أو مراقبة، فيكفي إعلانهم الانتماء للإسلام حتى تقدم لهم شيكات على بياض.
2. وبالنسبة للمسألة الثانية التي تتعلق بالجبر والتخيير، وهي ذات طبيعة عقدية فهي “الجبرية” التي عمل المستبدون على الترويج لها وإشاعتها في المجتمع الإسلامي، وكان من نتائجها الانسحاب من الاهتمام بالشأن العام، والإحجام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الحكام تصدوا للحكم بقضاء وقدر. ورسخ الملك العاض هذه العقيدة، وظهرت ظهورا بينا في تبرير مقتل الحسين رضوان الله عليه، تعلق قاتلو الحسين رضوان الله عليه بحجة عقدية، وهي”الجبرية” أي تحميل مسؤولية كل ما وقع “للقضاء والقدر”، ورسخ الانقلابيون من بني أمية هذه العقيدة، واصطنعوا لتقعيدها وبثها والترويج لها “علماء وفقهاء”، وهكذا:
– فانتهاء واقعة كربلاء باستشهاد الحسين “فتح من الله” 5، عن حميد بم مسلم قال: “دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه وعافيته” 6
– بعد أن نجا علي بن الحسين من القتل، أُدخل على عبيد الله بن زياد فقال له: “ما اسمك؟(قال علي) قلت: علي بن الحسين، فقال: أو لم يقتل الله عليا؟(كذا الله هو الذي قتل)،قلت: كان أخي يقال له علي أكبر مني قتله الناس، قال ابن زياد: بل الله قتله” 7
– وأُدخلت زينب أخت الحسين على ابن زياد فقال لها: “الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم، فقالت: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول أنت، قال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك” 8، فحسب ابن زياد الله هو الذي قتل وهو الذي صنع، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
– لما أدخل السبايا ومعهن علي بن الحسين على يزيد قال: “يا علي أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت” 9، وقال له في مشهد تمثيلي فاضح: “لعن الله ابن مرجانة، أما لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت الحتف عنه، بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت” 10، ولقد ظل هذا “المنطق الجبري” ملازما للأسر التي تعاقبت على حكم المسلمين بعد الأمويين، فقد جاء في خطبة لأبي جعفر المنصور يوم عرفات: “أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلا إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني قفلني” 11.
يستغرب الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله من عرض العقيدة على هذا الركام من الانحرافات العقدية التي أثرت على العقل المسلم وأفقدته حريته واستقلاله، وجعلته غنيمة سهلة للخرافات والتفاهات، وأشاعت العقلية الجاسوسية الشرطية في معرفة عقائد الناس والشق على قلوب العباد قال: “السؤال المطروح على عصرنا وما بعده هو: هل نأخذ عقيدتنا من القرآن والحديث مباشرة؟ هل نستطيع ذلك؟ هل يجب علينا ذلك؟ هل يقبل الله منا أن نستقبل ما أخبرنا به ورسولُه بالتسليم والطاعة والعمل باقين على البراءة الأصلية؟ أم لا بد أن نعرضَ عقيدتنا على الرقيب القاضي ونتبرأ أمامه من الجهمية، والقدرية، والمرجئة، والخوارج، والفلاسفة، والزنادقة، وعباد القبور، والمعطلة، وسائر الملل والنحل، قبل أن يجود علينا الرقيب القاضي، الذي ما نصبه أحد بل نصب نفسه، بشهادة حسن السلوك وصفاء العقيدة” 12، ولذلك حكم الأستاذ عبد السلام ياسين بالهلاك على “المرجئة” و”الجبرية“: “هلك الجبرية لما أنكروا اختيار العبد، وهلك المرجئة لما لم يرتبوا على الكسب ما رتبه القرآن من جزاء” 13، ورأى أنه من الواجب “على المسلمين أن يقاوموا ظلم المستكبرين وعلوهم في الأرض ليكسبوا رضى الله عز وجل، لا أن يستكينوا للواقع كما تجر إلى ذلك العقيدة الجبرية التي فعلت بالأمة الأفاعيل” 14.
المحور الخامس: لا حرية بدون التحرر من الفقر
مما يقعد بالأحرار عن ممارسة حرياتهم السياسية انشغالهم بهم الرزق، لاسيما عندما يتخذ التضييق على الأرزاق وسيلة للتضييق على الحريات، ومن تم وجب على الخطاب الديني ألا يهمل الحديث عن المسألة الاجتماعية ودورها المحوري السعي لأي تغيير، والأثر المشهور “من قتل دون ماله فهو شهيد” يرقي بمطلب الحرية السياسية إلى درجة الوجوب، فضلا عن اعتباره تجليا للفطرة البشرية السليمة التي لم تمسخ بالدعايات والتضليل والتجهيل، ولذلك “لا تهدأ الفطرة الإنسانية المجبولة على حب الحرية والعدل أو تجد طريقا إليهم، على الوضوح إن كان، وعلى الطريق المعتمة إن لزم. الفقر يطلب الغنى كما تطلب العبودية الحرية. الحاجة الفطرية تدفع إلى ما يحقق الكرامة الإنسانية. فإن وقف حاجز يمنع المجتمع عن أهداف العدل والحرية، فخرق ذلك الحاجز محتم حتمية الثورة بالنسبة لمجتمع المسلمين” 15.
إن الوقوع في الفقر الناتج عن الظلم يصم الآذان، ويشل الحركة، ويعتم الرؤية مما يستدعي التأكيد على ضرورة تجديد الخطاب الديني ليولي المسألة الاجتماعية مزيد اهتمام “فإذا أتيت يا داعي الله بالوعظ السامي وغزوت تلك الأذن وذلك الوعي المشغولين بالفقر والتعاسة والهم والمقهورية بقوارع الزجر أو لوامع البيان دون أن تذكر أمل الشفاء لمريضك، دون أن تصف العلاج، دون أن ترد المرض إلى أسبابه، دون أن تواسي، دون أن تقف بجانب من يحتاج إلى وقفتك، دون أن تربط مصائر الناس في الآخرة بمصائرهم في الدنيا، فلا تعجب إن غلب الفقر ولواذعه الإيمان ونوازعه” 16.
[2] المرجع السابق، ص 258.
[3] المرجع السابق
[4] المرجع السابق
[5] محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك والرسل، 3/288.
[6] المرجع السابق
[7] المرجع السابق.
[8] المرجع السابق.
[9] عبد الرحمان بن الجوزي، المنتظم، 2/199.
[10] المرجع السابق، 3/290.
[11] عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، عيون الأخبار، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ) 2/274.
[12] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ص 225-226.
[13] عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، ص 62.
[14] عبد السلام ياسين، العدل، ص 426.
[15] عبد السلام ياسين، الإسلام وتحدي الماركسية ص 6.
[16] المرجع السابق.