في مثل هذا اليوم 28 يونيو من سنة 2010 تحركت آلة القمع والترهيب المخزني ـ بفعل وشاية كاذبة وادعاء جاسوس مندس ـ من مدينة الدار البيضاء إلى فاس في سبع كمندوهات دفعة واحدة، لا لتمشيط بؤر الجريمة أو تجفيف مستنقعات الفساد المنتشرة في البلاد، بل لترهيب العباد، وإرعاب أسر وأحياء آمنة في عز الليل، وخارج الأوقات القانونية المنصوص عليها مسطريا بخصوص البحث والتحري، فكانت الحصيلة اعتقال سبعة قياديين من جماعة العدل والإحسان بالمدينة، أظهر مسلسل التحقيق والاستنطاق الذي دام ستة أشهر رهن الاعتقال أن ما حرك تلك الأجهزة باطل، وأن المعتقلين بريئون مما نسب إليهم. كان ذلك بعد شهور من المعاناة عاشها المعتقلون وعائلاتهم وأصدقاؤهم، وكل من تابع ملفهم، ولا زالوا يعانون من تبعات ذلك، فمن يجبر الضرر الذي لحق هؤلاء؟
عاش المغاربة بعدها ـ كغيرهم من العرب ـ على وقع أحداث الربيع العربي الذي هز عروش الفساد ودكّ أنظمة الاستبداد، فذهب من ذهب إلى غير رجعة إلى مزبلة التاريخ، وتلوّى من تلوى وتلوّن وتكيّف حربائيا مع موجة الأحداث، حتى إذا هدأت الأمور واستقرت رجع إلى أصله الذي لا يفارقه…
وكذلك كان نصيب الشعب المغربي، خراج حراك دام شهورا دستور ممنوح، مزيف الشعارات، يستبطن استبدادا وتحكّما مستمرا في دواليب كل شيء…
انخدع المنخدعون بالوعود الكاذبة والشعارات الزائفة، ولم تمر إلا شهور حتى بدأت الدولة العميقة تسترجع تحكمها في زمام الأمور، ونجحت ـ للأسف ـ في تدجين آخرين يؤمنون بالإصلاح من الداخل وحبسهم في مربع لعبتها، وانتقلت إلى توظيف المؤسسات الصورية “المنتخبة” في تمرير برامجها وخدمة أجندتها، وما هو إلا عام أو عامان حتى بدأ تغوّل السلطة العتيقة يظهر للعيان، وحلت مرحلة تصفية الحسابات حيث دشن المغرب بعدها أسوأ مسلسل في التردي والانحطاط منذ انطلاق “العهد الجديد” على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية…
تراجعت القطاعات الحيوية (التعليم، الصحة، الشغل…) إلى مستويات منذرة بالإفلاس والشلل التام، وبموازاتها تحركت آلة القمع المخزنية لتخرص كل صوت مطالب بأبسط الحقوق في مجموع التراب الوطني (سيدي إفني، زاكورة، جرادة، بني تيجيت، الحسيمة…) تفتقت عن عشرات السنين حبسا نافذا في حق الأحرار من هذا الوطن…
بعدها انطلق المخزن وأزلامه في تنفيذ أجندة الانتقام ضد من يزعمون أنه محرك القلائل والفتن في بلد الاستقرار والنعم، فكانت الحصيلة المئات من المرسبين والممنوعين من الوظيفة العمومية، والعشرات من الأطر المعفية من مهامها رغم الكفاءة المشهود لها بها، ناهيك عن البيوت المشمعة دون وجه حق، كل ذلك على خلفية الانتماء السياسي لجهة غير مرغوب في وجودها، موقعة بذلك الجهات المخزنية صك الوجود والخلود “الشرعي” لنفسها، وإشهار الأوراق الحمراء في حق من يعارض أو يشوش عليها…
لقد تعددت أشكال القمع والمنع والتضييق خلال السنوات العشر الأخيرة بشكل لم يعهده المغرب من قبل: تراجع المستوى المعيشي للمواطنين حتى اكتوت بناره الطبقة المتوسطة فما بالك بالطبقات الشعبية الأخرى، وطُبِّقت ترسانة من القوانين و”الإصلاحات” المجحفة اتجاه الشغيلة وعامة الشعب، ولما ضاق الناس درعا خرجوا للاحتجاج مسالمين، لايوظفون إلا أصواتهم الفاضحة الكاشفة، فكُسرت العظام، وأهدرت كرامة خيرة أبناء هذا الوطن في قطاعي الصحة والتعليم وغيرهما، وكممت الأفواه، ولُفِّقت التهم للأصوات والأقلام الحرة، وتم تسخير الآلة الإعلامية الرخيصة للتشهير والتشنيع والتشويه، وحركت المساطر المستعجلة بهدف الاعتقال والرمي بالفضلاء في ثلاجة التحقيق، فبدأ مسلسل تصفية الحسابات مع الصحفيين والحقوقيين والفضلاء عبر قضاء مسخر متحكم فيه…
عشر سنوات من الانتهاكات الجسيمة في حق خيرة أبناء هذا الوطن (الزفزافي ومن معه، معتقلو جرادة، معتقلو بني تيجيت…) لم يفلح الإجماع الحقوقي الداخلي والخارجي في إنقاذهم من انتقام المخزن، وبالأمس القريب نجا المناضل والناشط الحقوقي والمؤرخ والأستاذ الجامعي المعطي منجيب ـ بعد إضراب عن الطعام ومعاناة ـ من أنياب الموت في معتقل القهر والظلم، واليوم تطحن آلة العسف والانتقام الصحافي سليمان الريسوني ـ وقد تجاوز الثمانين يوما من الإضراب عن الطعام ـ فتحرمه من أبسط حقوقه في عناد وإمعان سادي مقيت كما طحنت قبله توفيق بوعشرين، وتطحن انتقاما لا عدلا حفيظ زرزان وسعيد بوغالب ونور الدين العواج واللائحة مفتوحة…
كل هذا في أجواء الخنوع والخضوع والتبعية المطلقة للخارج، حفنة من المتنفذين الخائنين المستغلين الفاسدين تسوق المغاربة قهرا للرضوخ لإملاءات اللوبي الصهيوني مالا وحالا، ومن مانع أو عصى كانت له العصا…
وهكذا أصبحت لغة القمع هي الجواب الجاهز لدى هذه الحفنة. فرَدّا على الأوضاع المزرية، وعلى طلب الشغل، وعلى الترسيم، هناك العصا، وردا على غلاء المعيشة والافتقار لأبسط الخدمات، هناك العصا، وردا على التطبيع أو نصرة فلسطين… هناك العصا، لاصوت يعلو على صوت العصا…
وفي ظل هذه الأجواء المشحونة ينبعث من الركام، من الأشلاء، من الخواء ـ في ضحك على الذقون ـ نموذج تنموي يعِد ويمني كما وعدت قبله نماذج بالسراب، وللعادي، بلهَ العاقل، أن يتساءل: متى كان الحنظل ينتج العسل؟
إن حال بلادي يعكس ـ كما تروي الأساطيراليونانية ـ الصورة السيزيفية العبثية التي تحكي عن حكم الآلهة على سيزيف بدفع الصخرة من أسفل إلى أعلى حتى ما إذا أوشك على إيصالها تدحرجت منه مرة أخرى وهكذا، فكلما حاول هذا الشعب المسكين أن ينهض أتاه حكم آلهة الزمان بالنقض، ليرجعه إلى سابق عهده، وإلا فالعصا أحسن عرض.
والأدهى والأمرّ أن هذه الحفنة ومن والاها تنسى أو تتناسى اعترافها في لحظة ما بسوداوية المشهد، وتُسوّق باقي العام للرأي العام ـ في لغة خشبية ـ أن ما يُعاش زَينُ الأعوام.
وهكذا تتعايش في بلدي “السعيد” لغة التراجيكوميديا، فتتناغم لغة أين الثروة مع لغة الديبشخي مع لغة الباكور في رحبة الزعتر لترسم معالم مغرب 2035، مغرب النموذج التنموي السيزيفي العبثي، والذي يزيد من عبثيته توَغّل صخرة الفشل في مستنقع الفساد والسكوت على المفسدين، فهل من طاقة وإرادة لإخراج الصخرة من الوحل قبل الصعود بها إلى أعلى الجبل؟؟