السابع من أكتوبر: ذكرى وبشرى

Cover Image for السابع من أكتوبر: ذكرى وبشرى
نشر بتاريخ

في السابع من أكتوبر 2023 استفاق العالم على خبر  شغل الناس واستأثر باهتمامهم، وتناقلته وكالات الأنباء الدولية، وانبرت مراكز التفكير لتحليله والوقوف على تداعياته، وهو خبر اقتحام المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لمستوطنات غلاف غزة وثكناته العسكرية التي أقامها الكيان الصهيوني ليُحكم الحصار على القطاع، وفي أقل من ساعتين استطاع المجاهدون أن يقضوا على فرقة غزة العسكرية ويأسروا مئات الضباط والجنود والمستوطنين، أصاب الشلل أجهزة الجيش والشرطة والمخابرات الصهيونية، وأطلقت المقاومة على عمليتها البطولية إسم “طوفان الأقصى”؛ جمعت في تفاصيلها التخطيط الجيد، وإتقان الخداع الاستراتيجي للعدو بعد جمع كل المعلومات الاستخبارية عنه وعن طبيعة تفكيره، وبعد تربية الإرادة الإيمانية وتقويتها بذكر القرآن وفكره، ومجاهدة العبادة، وجهاد النفس، والصبر على ما يتوقع من أذى العدو الذي سيسعى للانتقام.

كان الطريق واضحا أمام المقاومين، وأيقنوا أنهم سيواجهون حربا لا ككل الحروب، وعدوا منفلتا من كل الضوابط الأخلاقية أو الإنسانية، وكمًّا هائلا من التهديد والوعيد، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (آل عمران: 173)، ومنذ اللحظة الأولى “للطوفان” تبين للخاص والعام أن العالم أمام حدث سيغير السياسات الدولية، والأحلاف العسكرية، والتصورات الفكرية، والبنيات الاقتصادية، والسمات النفسية. ويقتضي منا التعرض بالبيان لكل ذلك رسم أمور:

أولا: عدو وأعداء وخذلان

 تمثل العدو للمقاومين في صور شتى:

– في صورة عدو هو الأشد عداوة للعرب والمسلمين والإنسانية، تكشفت حربه على أهل غزة عن إبادة جماعية راح ضحيتها إلى اليوم ما يزيد عن مائة ألف إنسان بين قتيل وجريح، ولم يسلم منها لا الشجر ولا الحجر ولا الحيوان، ولا الأطفال ولا الشيوخ ولا النساء.

– في صورة ذوي القربى (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة)، بين مُخذِّل ومثبط، ومروج لادعاءات العدو وأكاذيبه، وقد توزعوا بين جهات رسمية وجهات شعبية.

– في صورة الغرب المتصهين الذي فتح مخازن السلاح للصهاينة، وجند مؤسساته الإعلامية لبث السردية “الإسرائيلية” والترويج لها، وأكد مواقفه العنصرية المعهودة من العرب والمسلمين.

ثانيا: التضامن مع الفلسطيني عنوان الإنسانية

استفزت الضمير العالمي مشاهد الإبادة التي نقلت – لأول مرة في التاريخ – على الهواء مباشرة، فاندلعت في الجامعات الأمريكية والغربية مظاهرات ومسيرات واعتصامات طلابية متضامنة مع الفلسطينيين وقضيتهم، ومنددة بالإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة على نحو غريب وعجيب وغير مسبوق في التاريخ الأمريكي القديم والمعاصر:

– كأن الطلبة كانت تنقصهم قضية يلتفون حولها لإثبات الذات ومعارضة السياسة الأمريكية الرسمية التي تبذر أموال دافعي الضرائب وتعطيها بسخاء إلى “بني إسرائيل”.

– أولئك الطلبة بدؤوا يشكلون نواة نخبة جديدة في طريقها إلى التحرر من قبضة “اللوبي اليهودي” وتشييد قواعد جديدة للتعاطي مع نضالات الشعوب المظلومة والمستضعفة.

– في غير أمريكا أحيت المقاومة الفلسطينية اليسار في أوروبا، فإذا كان في بداياته وفي ذروة انتشاره أدار برامجه ومشاريعه حول مطالب العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ودعم حركات التحرر الوطني، فإنه تحول بعد انهيار المعسكر الشرقي، وبفعل الضغوط الأمريكية على مثقفيه وسياسييه إلى دعم مقاربات “الجندر” و”المثلية”، وأخيرا وجد في “أحداث غزة” فرصة تاريخية لمعانقة “الروح الإنسانية” والرجوع إلى شعاراته الأصليه.

– أكثر ما أثار استغراب وإعجاب المتضامنين الدوليين مع القضية الفلسطينية هو الصمود المنقطع النظير لأهل غزة ومقاومتهم، ومن تجشَّم منهم مشقة البحث عن السر والسبب أدرك أن ذلك يرجع إلى الخلفية العقدية التي يشكل القرآن الكريم سُداها ولُحمتها، بدعواته المتكررة إلى الثبات والصبر والتحمل طلبا لما عند الله:

  • يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا (آل عمران: 200).
  • يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأنفال: 45).
  • وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (النساء: 100).
  • وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ (النساء: 104).
  • إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (آل عمران: 140).
  • وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران: 169).

ولهذا نسجت الدوائر الصهيونية مع تلامذتها وعملائها المؤامرة تلو الأخرى لتغيير مناهج التعليم في البلدان الإسلامية بتواطؤ مع المستبدين والمفسدين للقضاء على منظومة القيم الإسلامية التي تتكسر على صخرتها جميع المؤامرات والدسائس.

ثالثا: وحدة الساحات وأحلاف الضرار

“مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهرِ” 1.

إن المعارك الفاصلة التي توضع فيها مصائر القضايا الكبرى كالقضية الفلسطينية على المحك ينبغي للإنسان أن يختار صفه ومعسكره بكل وضوح وبلا تردد، وهو ما فعله “حزب الله” الذي اختار منذ الأول إسناد المقاومة في غزة، واختار البعض لقصور نظرهم وضيق صدرهم بالمخالفين التشغيب على ذلك الإسناد باستدعاء مشاركة “حزب الله” في مذابح سوريا الطائفية مما يعتبر خلطا بين سياقات الأحداث ومقامات الحديث، فألفينا قائلا يقول: “بعدما فعله الحزب في سوريا لا مجال للإشادة بإسناده للمقاومة في غزة”، وميزان العدل القرآني الذي تضمنته الآية الكريمة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ (المائدة: 7) يحملنا على القول: نعم يقال للحزب: أخطأت يوم أجرت بندقية المقاومة لنظام مستبد طائفي، ويقال له: أصبت وشكرا لإسناد أهل غزة، ثم نمضي لمواجهة العدو ونحن جميع ومتحدون. وألفينا قائلا آخر يقول: “لا حاجة لنا بدعم إيران المجوسية، الصفوية، الرافضية، الشيعية، فكل ما يصدر منها فهو على جهة التقية، فإياكم أن تثقوا فيها، ألم تروا مساندتها لسوريا النصيرية، وبشار السفاح”، وكأن السيسي يمثل الخليفة السني الراشد، وهو شريك في الحصار الظالم على مليوني إنسان في سجن مفتوح لم تشهد له البشرية مثيلا في التاريخ يقال له “قطاع غزة”، وارتكب مذبحة أزهقت أرواح آلاف من الأبرياء.

وبعدما قدمت وحدة الساحات ثمنا باهظا لإثبات صدقيتها باستشهاد زعيميها السيد إسماعيل هنية والسيد حسن نصر الله، بدت تافهة كل دعوات التحريش الطائفي التي تذكيها الدعاية الأمريكية والصهيونية، وغدت وحدة الساحات تعبيرا عن وحدة المصير، ووحدة الدين، ووحدة الهدف تجاه عدو الأمة التاريخي. هذه هي المعاني التي كان يجب التقاطها من مشاهد التشييع الشعبي والرسمي الإيراني للشهيد السعيد إسماعيل هنية رحمة الله عليه، تشييع عز له النظير في التاريخ الإيراني المعاصر؛ جماهير وزعامات شيعية تشيع زعيما سنيا، الشيء الذي يدل على أن ملحمة “طوفان الأقصى” صارت معركة عابرة للمذاهب، وعابرة للقارات، ولا عيب في توصيفها بأنها معركة الإنسانية ضد التوحش، ومعركة العقل الإسلامي المستنير بالروحانية والمقاصد ضد العقلية الذرية التبسيطية الطائفية.

إن “وحدة الساحات” في مواجهة العدو الصهيوني تمثل اليوم علامة فارقة في تاريخ العلاقات السنية الشيعية:

– إذ استطاعت أن تنقل المعارك المصيرية من المزايدات الشعارية إلى الوحدة الشعورية من أقصى المغرب إلى أقصى جاكارتا.

– واستطاعت أن تترك الخلافات العقدية والفقهية والسياسية جانبا، فما أوسع ذمة التاريخ كي يحتفظ بها، وما أضيق صدور الذين ينفخون في النيران الطائفية ليزيدوها ضراما واشتعالا، مما يعد في هذا الزمان الذي تشحذ فيه السكاكين لذبح المسلمين والمقاومين مسلكية بلهاء وجريمة نكراء، فليس الخلاف السني الشيعي وليد اليوم أو البارحة، وإنما هو خلاف دام قرونا، واستهلك الكثير من الكاغد، وأسال الكثير من الدماء، واستغله المستبدون والمتعصبون – من الفريقين سنة وشيعة – للحفاظ على كراسيهم، وإن كل حلف “سني” تسعى أمريكا لإقامته بغرض مواجهة “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” لهو “حلف ضرار” يتعين على كل مسلم شريف وحر حصيف أن يتبرأ منه، تبرُّؤه من الحلف “الشيعي” الذي ساعد – في يوم ما – على تدمير العراق وغض الطرف عن غزو أفغانستان. وإن السياسات المستبدة لهي التي تعمق الخلافات المذهبية وتستغلها، وتُلبس الخلافات السياسية لبوسا دينيا. إن حكام الجبر بريؤون من”التسنن” براءة الذئب من دم يوسف، لا يهمهم حكم علي ولا حكم أبي بكر ولا عمر، ولا يهمهم محور مقاومة ولا تصدي، فهم غارقون في الفساد والعمالة من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين، ويشكلون كنزا استراتيجيا للعدو الصهيوني.

رابعا: تطبيع مجاف للطبيعة البشرية

الطبيعة البشرية السوية تكره الظلم والظالمين، ولذلك أجمعت شرائع الأرض والسماء على ضرورة مواجهة الظلم، وشيدت قواعد وقوانين لضمان التعايش بين الناس في سلام ووئام، وقد تعرض الشعب الفلسطيني لظلم عظيم يوم أخرج من أرضه ودياره وأبنائه، وخاض حروبا ومعارك وقدم آلاف الشهداء لرفع ذلك الظلم، إلا أن الكيان الصهيوني وداعميه لم يكتفوا باغتصاب الأرض، بل دعوا العالم أجمع للتسليم بشرعية ذلك الاغتصاب، وهذا هو المعنى الحقيقي “للتطبيع” الذي فرض على الكثير من الدول العربية والإسلامية، وقد مثل فصله عن نصرة “القضية الفلسطينية” خطرا ماحقا أوشك أن يقبر القضية ويمحوها من ذاكرة الأجيال، وجاء “السابع من أكتوبر” ليدرأ ذلك الخطر ، ويعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث في العالم بشكل لم يسبق له مثيل ولا نظير.

خلاصات

إن “السابع من أكتوبر” يؤرخ للربيع الفلسطيني الذي أزهرت به المعاني الإنسانية في القلوب، وبدأت به حرب التحرير الشامل، والتحرر من “الشر المطلق” الذي اتخذ من أمريكا “وكيلا” من دون الله.

– ربيع قدم دلائل إيضاح لما حدث في 1948 من سلب للأرض وإزهاق للأرواح وسفك للدماء على أيدي العصابات الصهيونية.

– ربيع أيقظ الضمير الإنساني العالمي، فتنامت أعداد المتضامنين الدوليين مع الفلسطينيين.

– ربيع فضح النظام العربي الرسمي وعراه وأكد على أن التحرر من أنظمة الفساد والاستبداد هو المقدمة الصحيحة لمعركة التحرير الشاملة التي ستعيد القدس وأرض المسرى والرباط والشرعية والحرية.

– ربيع  يبشر ببداية نهاية المركزية الغربية العنصرية على أيدي شباب أفلتوا من عملية غسيل المخ التي خضع لها آباؤهم وأجدادهم من طرف اللوبيات الصهيونية.

– ربيع سيعيد النظر في مفاهيم حقوق الإنسان والنضال والمقاومة والحرية والمرأة والتاريخ والجغرافيا والشرق الأوسط والأمم المتحدة والشرعية الدولية والقانون الإنساني ومجلس الأمن… إلخ.

– ربيع بين عظمة رجال ونساء المقاومة: صمود أسطوري، وعقيدة لا يزعزعها شيء، وعزيمة قُدَّت من صخر.

– ربيع انتصار الدم على السيف، وبراءة الأطفال على العفونة والتوحش التي أبداها الكيان اللقيط الذي يستأسد جلاوزته وجلادوه على النساء والشيوخ، ويتمترسون خلف الدبابات والجرافات ويجبُنون عن المواجهة المباشرة مع رجال الله، عباد الله ذوي البأس الشديد والأداء الفريد.

– ربيع وجه الضربة القاضية للتطبيع والمطبعين وعملاء الموساد بين أظهرنا، ليستفيقوا من سكرة الاستقواء بكيان لم يستطع حماية نفسه لتهب حاملات الطائرات والأسلحة من كل نوع، والشخصيات الغربية المنافقة إلى المنطقة لدرء الخطر الوجودي على صنيعتهم.

– ربيع أخرج من شقوق الألم والحزن على الشهداء والأطفال والجرحى والمكلومين أمل الانعتاق  والتحرر من كيان متوحش يشكل عبئا على البشرية وعلى صانعيه أيضا ما دام فيهم أحرار لم يفقدوا إنسانيتهم.

– أطاح طوفان الأقصى بخرافات وأساطير: أكبرها أسطورة “جيش إسرائيل الذي لا يقهر”، وفي الحقيقة لم يقهر لأنه لم يخض في تاريخه معارك حقيقية، ولا واجه جنودا شديدي البأس يطلبون إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.


[1] أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586).