يقول الحق جل وعلا في محكم التنزيل من سورة التوبة (الآية 101): وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
1. سياق الآية ومساقها
بين سورة التوبة وسورة الأنفال، التي قبلها في الترتيب القرآني، تناسب عجيب، حتى عدهما بعض الصحابة سورة واحدة بدون بسملة تفرقهما، فسورة الأنفال من أوائل ما نزل في المدينة، واختُصّت بأول غزوة غزاها رسول الله عليه السلام، وهي غزوة بدر، حيث لم يتجاوز من حضرها الثلاث مائة وأربعة عشر مجاهدا، وحركة النفاق داخل المجتمع المدني آنذاك في بدايته، خاصة بأفراد معدودين لم يجمعهم بعد كيان منظم. أما سورة التوبة، فهي على العكس تماماً، نزلت إثر آخر غزوة غزاها عليه السلام، وهي غزوة تبوك، وحضرها أزيد من ثلاثين ألفا من المسلمين، ومجتمع المدينة حينها خليط من مؤمنين، متفاوتة درجاتهم في الإيمان والعمل الصالح، ومنافقين، لهم كيان وبرنامج ومخططات ماكرة خفية تكفلت هذه السورة بفضحها، ثم أعراب، وهم خليط من مسلمين صادقين، وآخرين منافقين، وآخرين قاعدين متخلفين، وآخرين يخونون عهد الله، قال ابن تيمية رحمه الله: “فكل هذه الأصناف مذكورة في القرآن، وحكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظائرهم” 1.
فإن كان كل مجتمع إسلامي قائم لا بد أن تكون في هوامشه وأطرافه حواش مسؤول عنهم لا مسؤولين، فقد حددت السورة والنموذج النبوي ميزان ودستور التعامل مع كل صنف بحسب طاقته ومؤهلاته.
من ثم جاءت هذه الآية لتحدد منزلة القادة الفعليين للمجتمع الإسلامي القويم، فبينت أنَّ فوق منزلة الأطراف والحواشي منازل أعلَى وأعظم منها، وهي منازلُ السَّابقين الأولين.
2. فضل السبق
قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام، والتالي تابع له، فهو إمام له وله مثل أجره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بها إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ” 2.
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ يعني الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة. وقال عطاء: “هم الذين يذكرون المهاجرين بالوفاء والترحّم والدعاء ويذكرون مجاورتهم ويسألون الله أن يجمع بينهم” 3.
3. ماهية السبق
جيل السبق والتأسيس هو النواة الصلبة والبذرة الصافية التي ينبني عليها كل مشروع تربوي ناجح، فهم حجر الزاوية وعماد البناء الذي يحمي المشروع من التصدع والتقهقر، خاصة بعد غياب المصحوب القائد المؤسس، فهو اصطفاء قبل كل شيء وتنشئة مباشرة ومتدرجة، اجتمعت في إمكانية حصوله عوامل موضوعية:
– عظمة المربي صلى الله عليه وسلم أو المصحوب أو المؤسس.
– صدق الهمم وسلامة الفطر وعلو الطلب في الوقت الذي انفضّ عنه سواهم، ثم تحمل المغارم بعد ذلك ولو انتفت المغانم.
– التربية الشاملة على عين القائد المصحوب والتلقي المباشر بلا واسطة.
ثم عوامل ذاتية:
– المسارعة والانقياد للمشروع بدون إبداء معارضة شديدة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله” 4.
– الانتفاع الأكمل من التربية والتزكية.
– التربية الدائمة والترقي حتى من بعد الصاحب المؤسس، امتثالا لقوله صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا، فالصديقية والعمرية إنما كملت مرتبتها وبلغت درجة الكمال في نهايتها لا في بدايتها.
4. حقيقة السبق
السبق يتحقق بأمور لا تخرج عن ثلاثة: فِي الزَّمَانِ، أَوْ فِي الْمَكَانِ، ثم الصِّفَةِ والتي يندرج تحتها كل المؤهلات العلمية والعملية والتربوية.
أما السبق الزماني في تبني المشروع، كالسبق الزمني إلى اعتناق الإسلام، بيد أنه ليس بالشرط الكافي، ويصدق ذلك مقولة “ليس الفضل لمن سبق، بل لمن صدق”، لكن مع ذلك لزم اعتباره “وقد بين الله في قوله: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (سورة الحديد، الآية 10)، وتأكد ذلك عملياً في الميزان العمري في التفاضل بين الصحابة في الأعطيات.
ثم السبق في المكان، فهو كذلك ليس كافياً، وإن اعتبر الْمَكَان في مَنْ تَبَوَّأَ الأنصار دَارَ النُّصْرَةِ.
وتبقى الميزة المتحققة في السبق هي صِفَةُ الصدق ومعيار الكفاءة وتبني المشروع فكرا وعملا، ومن ذلك قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ من بَعْدِهِمْ” 5.
قال الرازي صاحب التفسير: “والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة، وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون في ماذا، فبقي اللفظ مجملاً إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً، … ، فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره من هذه الطاعة، وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة، فازوا بمنصب عظيم، فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد: والسابقون الأولون في الهجرة” 6.
وظهر ذلك جليا في قصة عَبْد الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ حين شَكَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رضي الله عن الجميع (وهما ممن تأخر إسلامهما إلى قبيل الفتح) فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أحد – أو مثل الجبال – ذهبا، ما بلغتم أعمالهم” 7.
5. محاذير تخرم فضل السابقة
“حسنات الأبرار سيئات المقربين”، ليست السابقة تشريفاً أو أوسمة تزين بها الأكتاف والصدور بقدر ما هي تكليف وتحمل للمسؤولية والأمانة، ومنصب اقتداء، ومحط نظر للتابعين واللاحقين، تحصي عليهم فلتاتهم، فعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ مِنْكُمْ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ” 8، فالصِّدِّيقيَّةَ والعمرية تَقتَضي عُلُوَّ الهِمَّةِ، وتَرْكَ سَفاسِفِ الأُمورِ، دليل ذلك حديث عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها، قالت: “مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وهو يلعن بعض رقيقه، فالتفت إليه، فقال: “لعانين وصديقين؟ كلا ورب الكعبة” قال: فأعتق أبو بكر يومئذ بعض رقيقه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أعود” 9.
تبوؤ قدم السبق اصطفاء وابتلاء، فهو امتحان مستمر لا يتوقف، خاصة إن علا في أعين من حوله، فمتى نفض صاحبه يديه عن محاسبة نفسه وتنميتها في مدارج الكمال فهو نزغ من الغرور، فلا مجال لاعتقاد العصمة والتنزه عن قبول النصح حتى لا تزل قدم السبق إلى درك الفرعونية المقيتة.
محذر آخر وليس أخير ركز عليه الإمام عبد السلام ياسين في مكتوباته فقال: “السابقة في الإسلام خدمات للإسلام يسبق بها المرء غيره. هذا له حسابه ووزنه وحرمته. لكن ما القصة إذا كان السابق قليل الغناء، أي قليل الخبرة والفائدة والجدوى والفاعلية؟… كلُّ من يُدِلُّ بسابقته، ويمُنُّ بها، ويعتبرُها رأس ماله، فإنما هو وُصُولِيٌّ تُسقِطُه وُصوليته هذه إلى مهاوي السفهاء، ويقدَحُ في دينه استشرافُه للرئاسة… فهذا أيضا إن صلُحَ للدعوة والوعظ والتربية لا يصلح لمهام الدولة. ربما يكون واعظا ممتازا مؤثرا بكاء، ويكون في نفس الوقت أعجزَ الناس عن ضبط نفسه، وتنظيم غيره، كما تقتضي الجنديةُ ويقتضي الجهاد” 10.
أختم بإشارات لطيفة لابن عجيبة حول هذه الآية، يقول 11: “لكل زمان سابقون، قد شمروا عن ساق الجد والاجتهاد، ورفضوا كل ما يقطعهم عن محبوبهم من العشائر والأولاد، قد خرقوا عوائد أنفسهم، فأبدلوا العز بالذل، والجد بالخمول، والغنى بالفقر، والرفعة بالتواضع، والرغبة بالزهد، وشغل الظاهر بالتفرغ، ليتفرغ بذلك الباطن. وسافروا في طلب محبوبهم، وصحبوا المشايخ، وخدموا الإخوان، حتى ارتفعت عنهم الحجب والأستار، وتمتعوا بمشاهدة الكريم الغفار؛ فتهيؤوا لتذكير العباد، وحيت بهم الأقطار والبلاد. وفي مثلهم يقول الشاعر:
تَحيا بِكم كُل أَرضٍ تَنْزِلُون بها
كَأَنَّكُم في بِقاع الأرض أَمطَار
وتَشتَهِي العينُ فيكم مَنْظَراً حسناً
كأَنَّكُم في عُيون الناس أَقْمَارُ
[2] الجامع لأحكام القرآن، شمس الدين القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية القاهرة، ط 2، 1384هـ – 1964 م، ج8، ص 238.
[3] الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي، تحقيق محمد الفاضلي، المكتبة العصرية بيروت، 1417هـ، ج6، ص206.
[4] الجامع المسند الصحيح المختصر، أبو عبد الله البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لو كنت متخذا خليلا”.
[5] صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة.
[6] التفسير الكبير و مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، 1401ه 1981م، ط 1، ج8، ص127.
[7] مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط عادل مرشد وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421هـ 2001م، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.
[8] سنن الترمذي، تحقيق عطوة عوض، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، ط 2، 1395هـ 1975م، ج4، ص 530.
[9] شعب الإيمان، أبو بكر البيهقي، تحقيق مختار أحمد الندوي، الدار السلفية ببومباي الهند، ط1، 1423هـ 2003م، ج7، ص 145.
[10] سنة الله، عبد السلام ياسين، مطبعة الخليج العربي تطوان، ط 1، 1426هـ 2005م، ص 301.
[11] البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ابن عجيبة الحسني، تحقيق أحمد عبد الله القرشي رسلان، حسن عباس زكي القاهرة، 1419هـ، ج2، ص 422.