ليست بطولة البتّة ما يتباهى به اليوم مجرم الحرب اللقيط نتنياهو من أن إصراره على المعركة جلب له ولكيان الاحتلال اغتيال ثلاثة من أبرز قادة المقاومة ووجوهها؛ هنية فنصر الله ثم السنوار، ليست بطولة يمكنها أن تفك “الشرنقة” العالقِ فيها هو ودويلته المصطنعة، ولا إنجازا يستطيع أن يخرجه هو وعصابته من عنق الزجاجة الشديد الضيق.
ليس الأمر، استشهاد السنوار، كما تريد أن تصوره لنا الدعاية الصهيونية ووكلاؤها؛ هزيمة للمقاومة لا نهوض معها، وضربة تقسم الظهر فلا قيام. ذلك أن تيارات المقاومة -خاصة حين تتأسس على عقيدة دينية- تبني فلسفتها على التضحية المكلفة للعدو، وهيكلها القيادي على سدّ النقص المتوقع، وحركتها على ديمومة الفعل الميداني. وهي إلى هذا، توطّن نفسها على معركة الصبر وطول النفَس، بعد أن يتقدم قادتها الصفوف ليكونوا البوصلة والعنوان، ولذلك كان شعار حماس الآسر “قادتنا شهداء”.
السّنوار، هذا الذي ندب حياته لقضيته، والذي لم يفتّ في عضده لا سجون الاحتلال (23 سنة) ولا تهديدات قادته طيلة عقود، أنجز مهمته البطولية كما وعد؛ فكان أمينا جدا مع رسالته، صادقا بحق مع نفسه وربه وشعبه، سالكا درب المقاومين الأفذاذ، حتى مات على ما عاهد عليه، مقبلا غير مدبر، ليلقى مولاه شهيدا كما تمنى ويتمنى كل مؤمن صادق الإيمان.
سيضاف اسم الرجل (أبو إبراهيم يحيى السنوار) إلى سجل ذهبي من “القادة الشهداء”، ووراءهم لائحة طويلة من شهداء الشعب الفلسطيني العظيم، الذي يسترخص كل شيء على طريق القدس اللاحبة. ومطلقا، لن يؤثر رحيله على مشروع الحركة ولا ضربات القسام، تلك هي روح المقاومة وحقيقتها (إذا مات منا سيدٌ قام بعدَه .. نظيرٌ له يُغني غَناه ويَخلُف). وها أنت ترى معي كيف أن نشوة اغتيال اسماعيل هنية سرعان ما أذهب بها قصف تل أبيب يوم الذكرى الأولى لطوفان الأقصى وما أعقبه من إثخان متتال لجيش العدو ومرتزقته، كما ترى أيضا كيف أن قتل حسن نصر الله لم يوقف قصف حيفا وصفد ولم يمنح عساكر الكيان تقدما حقيقيا في عيتا الشعب ومزارع شبعا…
لا شك ستكون قصته ملهمة لملايين الفلسطينيين، ونموذجا يضيء طريق الكثير من أبناء الأمة؛ رجل عصامي خرج من بين أنقاض القضية التي أريد لها الطمس، فصنع مسارا وعرا هو وإخوانه اسمه المقاومة، شعاره “وإنه لجهاد نصر أو استشهاد”، وأسهم في تشكيل وبناء كيان هو اليوم ملء السمع والبصر، يغيض العدو الصهيوني والاستكبار العالمي.
لم يختر، وهو القادر لو أراد، أن يعتصم في نفق مُحصّن بعيد محاط بأقوى مقاتلي الكتائب، بل اختار أن يرتدي بزّته العسكرية ويحمل السلاح كما أبناؤه وإخوانه، وأن ينزل وهو ابن 62 عاما صحبة رجلين (ما ضرهما ألا نذكر نحن القاعدون اسمهما) إلى ساح القتال وميدان الوغى، فقاتل وقَتل حتى قُتل، ليعيد على أبصارنا ومسامعنا مشاهد الصحب الكرام والصالحين المجاهدين، الذين قاموا وقاوموا فداء لهذا الدين وذودا عن حياض أمة خاتم المرسلين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين.
اليوم، وخبر استشهاد هذا الرجل البطل يتوارد إلينا عبر كل الوسائل، استحضرت أن أول أمس فقط (الأربعاء 16 أكتوبر) كنا -كدأبنا- في مسيرة تضامنية مع الشعب الفلسطيني ومقاومته الصامدة، بمنطقة بعيدة جدا عن أرض المعركة اسمها الحي المحمدي بمدينة الدار البيضاء المغربية، نردد الشعار الشهير “قال القائد اسماعيل.. هذا النهج ولا تبديل.. لو خضعت كل الدنيا.. لن نعترف بإسرائيل”، لتتجلّى حقيقة أن نهج إسماعيل هنية -وهو نفسه نهج السنوار والعاروري وياسين…- لم ولن يذهب بذهاب الرجال، بل إنه نهج حي في وعي وشعور ملايين المسلمين حول العالم، وليترسّخ أن “إسرائيل” لا مكان لها في المنطقة مهما أبادت ومحت وسحقت وحاولت طمس القضية، فهذا شعب دولة طبّع حكامها مع المجرمين يكرّر دائما وأبدا “لن نعترف بإسرائيل”، وهي المقولة القاتلة للدويلة اللقيطة، والتي تتردد على لسان أمة بأسرها.
في المؤتمر الإعلامي المباشر الذي عقده عقب نهاية معركة “سيف القدس” في ماي 2021، تحدى الرجل الجسور وزير دفاع الكيان وجيشه معلنا أنه سيذهب راجلا في شوارع غزة قاصدا بيته ومانحا إياه وقتا كافيا لاتخاذ قرار اغتياله وتسيير الطائرة الحربية للقيام بذلك، في هذا المؤتمر قال السنوار كلمته القوية المزلزلة “ولن يرمش لي جفن”. ستظل هذه الكلمة، الطافحة عزّة وتحديا وكبرياء، ترنّ في الأسماع وتطرق العقول وتُعرض على القلوب المرة تلو المرة، لنرى نحن الأحياء موقعنا وفعلنا وواجبنا، ولنسائل “سهمنا” في معركة طوفان الأقصى البطولية وقضية فلسطين العادلة.