المبحث الثّالث: السنّة النبويّة بين المنهجية النصوصيّة والقراءة الحداثيّة 1: دراسة نماذج.
كثيرة هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم التي تلقّتها العقول بأفهام متباينة، قرأها بعض الفقهاء والمفسّرين والمحدّثين بسطحيّة دون تبيّن مقاصد الشرع، فضيّقوا واسعا، وأوّلتها طائفة من الحداثيّين فجعلوها موضع الاتّهام والرفض.
أخصّ بالذّكر هنا ما يتعلّق بطبيعة المرأة وبعض خصائصها، فسّرها الفريق الأوّل بشروحات تتّهم المرأة وتسيء إليها، وبأحكام تعدّ المرأة كمًّا مهملا محجورا عليه وتعطّل دورها الحضاري في بناء مستقبل الأمّة، واعتبرها الفريق الثّاني مثالا للتراث الإسلامي التقليدي الجائر وتأويلا ذكوريا لأحكام الشّريعة ينبغي مساءلته واتّهامه، من جملة هذه الأحاديث ما يلي:
أوّلا: حديث إمارة المرأة
روى البخاري عن أبي بكرة 2 قال «لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل لمّا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنّ فارسا ملكوا ابنة كسرى قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» 3. فهل في الحديث انتقاص لقدرات المرأة في القيادة والمسؤوليّة؟
يقول ابن قدامة الحنبلي بحرمة تولّي المرأة المسؤوليّات العامّة معلّلا ذلك بسفاهتها وضعفها “القاضي يحضر محافل الخصوم والرّجال، ويُحتاج فِيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي، ليست أهلا للحضور في محافل الرّجال، ولا تقبل شهادتها ولو كان معها أَلف امرأة مثلها، ما لم يكن معهنّ رجل، وقد نبّه الله تَعالى على ضلالهنّ ونسيانهنّ، ولا تصلح للإمامة العظمى” 4، ويوافقه الرأي الإمام البغوي قائلا: “الإمام يحتاج إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد، والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز، وتعجز لضعفها عن القيام بأكثر الأمور” 5، ولكن لمّا أشرك رسول الله المرأة في الأمور العامّة وأخذ برأيها أحيانا إن كانت ضعيفة الرأي لا عقل لها، ولو كان في المرأة نقص في العقل والدّين ممّا يخرم مروءتها ويسلبها الإرادة لما استوت مع الرجل في التكليف والأفعال والجزاء والحساب كما قال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا النساء 124؟
صحيح أنّ جمهور الفقهاء والعلماء أجمعوا على اشتراط الذّكورة فيمن يلي مقام الإمامة العظمى للمسلمين، لكن ما عدا هذا المنصب ففيه نظر، لأنّ المرأة تشارك الرّجل في الولاية العامّة، ولها فيها المسؤوليّة الكبرى تأكيدا على مكانتها في واجب السّهر على دين الله ودعم البناء، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر التوبة 71.
أمّا من منظور الفكر الحداثي، فقد استثقلت فاطمة المرنيسي معاني الحديث النبوي، وقرّرت القيام ببحث مزدوج تاريخي ومنهجي حول الحديث، فما مضمون طعونها في الحديث؟
في البداية وجّهت سهامها نحو راوي الحديث أبي بكرة لتقدح في عدالته، وذلك بذكر السّياق التاريخي لرواية الحديث حيث ترى أنّه استغلّ الحديث لتعزيز موقفه السياسي زمن الفتنة، للإبقاء على الامتيازات التي حصل عليها حين كان واليا على البصرة تقول: “لماذا شعر بالحاجة إلى روايته؟ يجب أن تكون لأبي بكرة ذاكرة أسطورية لأنّه تذكّر بعد ربع قرن من موت النبي صلى الله عليه وسلم، في الفترة التي استردّ فيها علي بعد أن غلب في موقعة الجمل” 6، ثمّ انتقلت بعد ذلك للطّعن في متن الحديث مبيّنة أنّ الحديث اتّخذ حجّة لاستبعاد النّساء عن السّياسة وسلطة التقرير.
يتّضح أنّ فاطمة المرنيسي حاولت التشكيك في صحّة الحديث بطريقين دون أن تفلح في كليهما:
الأوّل: الطّعن في عدالة الصّحابي راوي الحديث حكم باطل، فالباحثة لم تكلّف نفسها عناء البحث عند أهل العلم لتجد أنّ العلماء أجمعوا على عدالة الصّحابة، يقول الإمام ابن الصلاح “للصّحابة بأسرهم خصيصة، وهى أنّه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدّلين بنصوص الكتاب والسنّة وإجماع من يعتدّ به في الإجماع من الأمّة” 7، وعليه قبلت مرويّات أبي بكرة باتّفاق العلماء.
الثّاني: حول متن الحديث وفقهه، فقد ضيّقت فاطمة المرنيسي واسعا، لأنّ الاختلاف حول معاني الحديث ومقاصده مشروع ومطلوب متى قامت به الحجّة والدّليل، وروعي أثناء النّظر في السنّة النبويّة إعمال الرؤية القرآنية وربط نصوصها بالمقاصد العامة للقرآن الكريم، حتّى تفهم السنّة النبويّة بعيدا عن التحريف وسوء التأويل، نعم تباينت أقوال الفقهاء حول تصدّي المرأة للشّأن العامّ والمسؤوليّات الجسيمة، يلخّص الإمام ابن رشد الحفيد أقوال العلماء ويوضّح أصل الاختلاف التي قدحت فيه المرنيسي، فيقول معلّلا “فمن ردّ قضاء المرأة شبّهه بقضاء الإمامة الكبرى، وقاسها أيضا على العبد لنقصان حرمتها، ومن أجاز حكمها في الأموال فتشبيها بجواز شهادتها في الأموال، ومن رأى حكمها نافذا في كلّ شيء قال: إنّ الأصل هو أنّ كلّ من يتأتّى منه الفصل بين النّاس فحكمه جائز، إلاّ ما خصّصه الإجماع من الإمامة الكبرى “ 8.
ثانيا: حديث فتنة النّساء
روى الإمام مسلم في صحيحه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ» 9.
كثيرا ما يستشهد النّاس بهذا الحديث للتنقيص من قدر المرأة، وتتّخذه النسوية الحداثيّة حجّة لرفض تعاليم الدّين ونبذ التراث بكلّ مكوّناته نبذا تامّا. فماذا تعني الفتنة؟
في اللّغة “فتن الفاء والتاء والنون أصل صحيح يدلّ على ابتلاء واختبار.. وفتنت الذّهب بالنار، إذا امتحنته” 10، وهذا يتطابق مع المعنى القرآني للكلمة، فالفتنة شدّة ومصائب من فعل الله تعالى المقضي المقدّر، ومن فعل الناّس يصيبهم بأس الله تعالى ويظهر بينهم الفساد بما كسبت أيديهم، الفتنة اختبار له معنى وهي أنواع مختلفة، حذّر منها القرآن الكريم ونبّه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سمّي بأحاديث الفتن في تصنيفات المحدّثين، يفتن الإنسان ذكرا أو أنثى بالمال وحبّ الشّهوات وقسوة القلب.. كما تنزل الفتن التاريخيّة على ميعاد بين قدر الله وانحطاط العباد كما جاء في حديث أبي هريرة «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ» 11، أشدّها فتكا بأمّة الإسلام اقتتال المسلمين فيما بينهم والتّكالب على السّلطة.
فما موقع فتنة النّساء الواردة في الحديث من الفتن الأخرى؟
يرى الحافظ ابن حجر أنّ “الفتنة بالنّساء أشدّ من الفتنة بغيرهنّ، ويشهد له قوله تعالى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ آل عمران 15، فجعلهنّ من حبّ الشهوات، وبدأ بهنّ قبل بقيّة الأنواع إشارة إلى أنهنّ الأصل في ذلك… وقد قال بعض الحكماء: النساء شرّ كلهنّ وأشرّ ما فيهن عدم الاستغناء عنهنّ” 12
ويعلّل المباركفوري قول رسول الله “أضرّ على الرّجال من النساء” لأنّ الطباع كثيرا تميل إليهنّ، وتقع في الحرام لأجلهنّ، وتسعى للقتال والعداوة بسببهنّ، وأقلّ ذلك أن ترغّبه في الدنيا، وأيّ فساد أضرّ من هذا؟ 13.
يبدو أن ّالمرأة أصل كلّ الفتن وأمّ كلّ البلايا التي تقع للرّجل، كما يستنتج الامام القرطبي مفسّرا لقوله تعالى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ “ففتنة النساء أشدّ من جميع الأشياء. ويقال: في النساء فتنتان… فإحداهما أن تؤدّي إلى قطع الرّحم، لأنّ المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمّهات والأخوات، والثّانية يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام وذلك لينال رضاهنّ.. وروى عبد الله بن مسعود قال «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تُسْكِنُوا نِسَاءَكُمُ الْغُرَفَ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَ». حذّرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنّ في إسكانهنّ الغرف تطلعا إلى الرجال، وليس في ذلك تحصين لهنّ ولا ستر، لأنهنّ قد يشرفن على الرّجال فتحدث الفتنة والبلاء… وفي تعلمهنّ الكتاب هذا المعنى من الفتنة وأشدّ” 14.
وهل يعقل أن تُتَّهم المرأة في كتاب الله تعالى؟ مع العلم أنّ ميل الرجل إليها وتعلّقه بها جعله الله تعالى مركوزا في الفطرة، والمقصد منه هو استمرار الإنسان كما يقول الإمام ابن عاشور “وضعه الله تعالى (أي الميل) لحكمة بقاء النّوع بداعي طلب التناسل، إذ المرأة هي موضع التناسل، فجعل ميل الرّجل إليها في الطّبع حتىّ لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف ربّما تعقبه سآمة” 15.
هذا أوّل الأمر، وثانيهما أنّ الفتنة لا تمنع بحبس المرأة وتواريها عن الأنظار، إذ ليس في سنّة رسول الله ما يدعو إلى سجن المرأة وتجهيلها، لأنّ حديث ابن مسعود موضوع كما قال الإمام الألباني 16.
أماّ أرباب الفكر الحداثي فيرفضون الحديث النبوي، ويعدّونه تحريضا صريحا على الإقصاء والتهميش والتمييز الذي يطال النّساء، بهذا الصدد تعتبر فاطمة المرنيسي الحديث من جملة الأحاديث المعادية للنساء “يعكس ذات الرؤية للنسويّة، قطب التدمير وسوء الحظّ.. المصدر هو عبد الله بن عمر المعروف بزهده والذي كان يقطع ليله بالصّلاة… فماذا يجب أن نستنتج؟ حتّى لو أنّ الأحاديث صحيحة يقتضي ملاحظتها بدقّة وانتباه ذلك هو حقّنا” 17، فهي تعتبر الحديث إيذانا بعودة تقاليد الجاهليّة وعلاقتها الإقصائيّة اتجاه المرأة “سرعان ما أخذ الاتّجاه المعادي للنساء يفرض نفسه بين الفقهاء ويأخذ لنفسه الأفضليّة، وسوف نرى انبثاق هذا الخوف الخرافي من النسوي الذي كان الرسول أراد إزالته” 18، فكأنّها تحمّل الأحاديث مسؤوليّة التحريض على تفشّي مظاهر الجاهليّة وكراهية النساء، هذا ما تفصح عنه صاحبتنا.
بهذه النظرة المريبة والضيّقة للحديث النبوي فات فاطمة المرنيسي وفريقها، كما فات العلماء الأجلاّء الذين اتّهموا المرأة وضيّقوا عليها أنّ مرام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقصده:
– التحذير من فتنة انحطاط تقع نتيجة تغييب المرأة وتهميشها وتعطيلها عن أداء مهمتها حافظة في بيتها وفي مجتمعها.
– التنبيه على أنّ فتنة النساء هي تجهيل المرأة، لأنّ مكانة النساء في المجتمع ودرجتهنّ في التقوى ودركتهنّ في الانحطاط معيار لنهوض الأمّة وسقوطها، فالمرأة إذا جهلت واستضعفت ركنت إلى الدنيا تمكر وتكيد لا شغل لها من أمر حاضر ومستقبل أمّتها.
[2] أبو بكرة الثقفي الطائفي مولى النبي صلى الله عليه وسلم، اسمه نفيع بن الحارث، وقيل: نفيع بن مسروح. تدلى في حصار الطائف ببكرة، وفر إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأسلم على يده، وأعلمه أنه عبد، فأعتقه، روى جملة أحاديث. سير أعلام النبلاء، 3/5.
[3] صحيح البخاري، كتاب الفتن باب الفتنة التي تموج كموج البحر، رقم الحديث 6686، وبوب عليه النسائي بقوله: “النهي عن استعمال النساء في الحكم”
[4] موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، المغني، 10/92.
[5] حسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي، شرح السنة، 10/77.
[6] الحريم السياسي، مرجع سابق، ص 67.
[7] عثمان بن عبد الرحمان بن عثمان الشهرزوري، علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح، ص 176.
[8] محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، 1/769.
[9] صحيح مسلم كتاب الرقاق باب أكثر أهل الجنة الفقراء و أكثر أهل النار، رقم2740،صحيح البخاري كتاب النكاح باب ما يتقى من شؤم المرأة، رقم الحديث 4808 الترمذي كتاب الادب باب ما جاء في تحذير فتنة النساء.
[10] أحمد بن فارس بن زكرياء، معجم مقاييس اللغة مادة فتن 4/472.
[11] صحيح مسلم كتاب الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل ظهور الفتن رقم الحديث 118.
[12] فتح الباري كتاب النكاح باب ما يتقى من شؤم المرأة 9/139.
[13] عبد الرحمان المباركفوري، تحفة الاحوذي، 8/53.
[14] محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 4/28-29.
[15] الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، 3/179.
[16] محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، 5/.30
[17] الحريم السياسي، مرجع سابق، ص 97.
[18] المرجع نفسه، ص 96.