تقديمما هي السياسة الدينية؟ وما الدين قبل ذلك؟ وما السياسة؟
جاء في الصفحة 411 من كتاب “المنهاج النبوي” للأستاذ عبد السلام ياسين: «كان سلفنا الصالح يسمون “سياسة شرعية” اجتهادهم في تنظيم الحكم. ويكون هذا الاجتهاد سياسة شرعية إن لم يصدم في نقطة من نقطه، أو رأي أو استنباط، مبادئ الشريعة، ولم يتجاوز حدودها، ولم يتقحم عليها».
هذا التعريف المقتضب الجامع يحدد بإحكام معنى السياسة الدينية الإسلامية ومصدرها وغايتها وضوابطها. فهي سياسة دينية أساسها ولبها القرآن والسنة. وغايتها خدمة مصلحة العباد. وضابطها احترام الشرع وعدم الاصطدام مع النص الديني.
بناء عليه، فإن سياسة لا تعتبر النص الديني سياسة لا دينية يذمها الشرع ويرفضها، ويندب أنصار السياسة الدينية إلى الجهاد ضدها بكل معاني الجهاد وأساليبه ومستوياته حتى تحل شريعة الله موقع السيادة في الشأن العام والخاص لخلق الله، في أرض الله، إيمانا منهم ويقينا مطلقا أن لا أكمل ولا أصلح ولا أفضل لعباد الله من دين الله الذي أكمل لهم وارتضى مصداقا لقوله عز وجل: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” (سورة الأنعام، الآية 3).
أكمل لنا سبحانه وتعالى ديننا الإسلامي وارتضاه لنا في جميع مناحي الحياة. فذلك فضل منه تعالى ونعمة عظمى تستوجب منا الحفظ والحراسة والدفاع بكل ما أوتينا من جهد وقوة.
السياسة الدينية نقيض السياسة اللادينية في المصدر والضابط والباعث والنية والغاية وإن حصل تقاطع في مجموعة من القيم والأخلاق والمبادئ كمناهضة الظلم والفساد والتسلط والاستبداد ونشدان الحق والعدل والحرية والكرامة والمروءة والأخوة، وهي مثل عليا أصلها ومنبعها الدين. أقامها الحكم العدل سبحانه وتعالى منذ الأزل ومن أجلها بعث وجاهد الرسل الكرام عليهم أفضل الصلوات وأزكى السلام.
السياسة الدينية جوهرها ولبها الدين. والسياسة اللادينية ترفض الدين وتزدريه. أو تدفعه وتعزله من حظيرة السياسة. وإن تفضلت، محرجة، جزأته واحتفظت به في خانة الأحوال الشخصية والشؤون الخاصة فيحصل الشرخ. يحصل “الانفصام النكد” متى غابت النية وانحرف الباعث واداركت الغاية.
يقول الحق عز وجل: “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة” (سورة النحل، الآية97).
“وهو مؤمن” يا من يعمل ويكد ويضحي ويناضل بباعث وضعي عنوانه الإنسانية البحثة والحرية والعدالة وحقوق الإنسان… مقطوعا عن حبل الله، جاهلا به وبكمال دينه وعصمة منهاج نبيه.
“وهو مؤمن” تحييك حياة طيبة في الدنيا والآخرة.
“ومن أعرض” تعرضه لسخطه وغضبه وتحييه حياة ضنكا مهينة.
من أنا؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا؟ وإلى أين أصير؟ وما المصير؟
كيف أنظم عملي ونضالي وتضحياتي؟
أ أختار لنفسي معية من قال فيهم الله تعالى “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة”؟
أم أختار لها معية ومصير من قال فيهم “وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا” (سورة الفرقان، الآية 23).
ضحيت وناضلت وكافحت بنية غير إخلاص العمل لله عز وجل، وبباعث غير الاستجابة لنداء الله تعالى، وبغاية غير إرادة وجهه عز وجل، فكان إحباط العمل وكان الخسران المبين.
أنت تناضل بالنقصان لشيء أصم أبكم. ما حققت العبودية له وما أخلصت النية. فاذهب غدا إلى أحد سواه يكافئك ويجازيك. أم تراك تظن بالله ظن الجاهلية! تظن أنه يعلم قليلا مما تعلم فرحت تختار لنفسك ولغيرك طريقا غير طريقه في شأنك الخاص والعام.
ما هي قواعد سياستنا الدينية؟ ما هي أصولها العلمية والأخلاقية؟ وما هي مرتكزاتها السياسية والاجتماعية والنفسية؟
أ- قواعد السياسة الدينيةأقصد بقواعد السياسة الدينية المرتكزات الروحية والعلمية والأخلاقية والمقومات الاجتماعية والسياسية والنفسية التي عليها تنبني السياسة الدينية في قوتها الإقناعية وإرادتها الاقتحامية والجهادية.
هذه المرتكزات والمقومات هي جوهر وأساس سياستنا الدينية كما سنبين في الفقرات الآتية. لذلك فإن المفكرين والباحثين يخطئون خطأ كبيرا عندما يزعمون أن قوة الحركة الإسلامية تكمن أولا وأخيرا في العامل الموضوعي: ما يعيشه الشعب من فقر وبطالة وأمية وجهل وتهميش، وليت شعري لماذا لا يفلحون هم، وهم أصحاب التحليل الموضوعي والمنهجية العلمية، في استقطاب المترفين والميسورين والمثقفين، من نعجز نحن، في زعمهم، عن استقطابهم!
ادعاء يخفي عقلية مسطحة تبسيطية في تناول مسألة عظيمة ذات جذور عميقة في أوساط الشعوب الإسلامية هروبا إلى الأمام وتخفيا وراء المزاعم والأوهام لتبرير إفلاسهم المذهبي والسياسي وبؤسهم الجماهيري.
نعود لنشرع في عرض مكامن الطاقة الخلاقة والقوة العملاقة في سياستنا الإسلامية ونترك الهرج والحرج لأهله.
1- أولى هذه القواعد وأعظمها هي ربانية المصدر وسماويته:
وهي تعني ما تعني من حق ويقين وقوة وعظمة مقابل وضعية مصدر الآخر وأرضيته. وشتان بين من يستمد من الحق المطلق والقوة والعظمة، ممن “ليس له مثيل” سبحانه وتعالى، من العليم الحكيم، وبين من يستمد من البشرية الضعيفة المحدودة “وخلق الإنسان ضعيفا”.(سورة النساء، الآية28).
قوة المصدر هته وعظمته تعطي لا محالة لأصحاب المذهب قوة شاملة. قوة في الإيمان والاعتقاد، وقوة في العلم والحجة، وقوة في التخطيط والتنظيم، وقوة في الدفع والتحمل، وقوة في الجهاد والاقتحام. وهذا ما يفسر صمود الفعل الإسلامي واستمراريته عبر التاريخ، رغم كل ما تعرض له من مؤامرات داخلية وخارجية، وقدرته على التجديد والظهور على غيره من المذاهب والتيارات المخالفة والمعادية مهما كان سندها ومددها وعددها وعدتها.
2- ثاني هذه القواعد هي عصمة المصدر وقدسيته:
وهي قاعدة معتبرة مرتبطة بالقاعدة الأولى. ونقصد بها عصمة المرجع والمنطلق الذي يستند إليه الإسلامي في اعتقاده وفهمه وتحليله وتخطيطه وبرنامجه وهدفه. قد يخطئ الإسلامي في تحليله وتخطيطه وبرنامجه لكن أصله ومنطلقه حق “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه” (سورة فصلت، الآية42) كما سلف. وهنا نميز بين عصمة المصدر وبشرية التنزيل. وشتان مرة أخرى بين من يستمد من الكمال والنور والعلم المطلق في فهمه وتحليله وتخطيطه وبرامجه وأهدافه وبين من يستمد من النقصان والظن والنسبي.
الإسلامي ينطلق ويبني على الحق والصواب وقد يخطئ في الاجتهاد والتقدير. والمادي ينطلق ويبني على الظن والنقص فكيف يكون تفكيره وفهمه والعمل؟
للمادي ترسانة من التخطيط والتنظيم، وآليات ومنهجيات صارمة في التجربة والتحليل، ومؤسسات لا غنى لنا نحن عنها إن نحن أردنا يقظة ونهوضا فعليا وفاعلا. له علم هو رصيد وإرث للبشرية في الخبرة والممارسة عبر التاريخ. لم يبخسه الله تعالى هذا العلم بل اعترف له به. لكن إعراضه الأعمى عن الحق أورثه الضلال المبين. قال الله تعالى: “وأضله الله على علم” (سورة الجاثية، الآية 23). أضله على علم، مع ما لديه من علم، لما جعل من عقله وهواه إلها يتبع ويعبد من دون الله، وآلات تحدد الصواب والوجهة والغاية. “ويحسبون أنهم على شيء”(سورة المجادلة، الآية18)”. “وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”(سورة الكهف، الآية104).
يوبخ الله تعالى هؤلاء ويلفت عقولهم الطاغية المتألهة علها تعود إلى صوابها، إلى النور والصراط المستقيم ويقول: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”(سورة الزمر،الآية39). “فماذا بعد الحق إلا الضلال. فأنى تصرفون”(سورة يونس، الآية32). فإن لم يستجيبوا فقل يا محمد، صلى الله عليه وسلم، وقولوا لهم يا أتباعه من بعده: ” قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون”(سورة الأنعام، الآية 91).
الانحراف الخطير الذي وقع في تاريخ المسلمين في قضية الحكم بخصوص هذه القاعدة جعل الحاكم يتصور نفسه كائنا معصوما مقدسا وفوق كل البشر. ظل الله في الأرض الذي لا راد لقوله ولا يناقش فعله! ومتى كان الظلم والاستبداد واستغلال الشعوب في الأرض ظل الله في الأرض؟! ظل الله في الأرض هو العدل والكرامة والحرية والمحبة والأخوة والسلام والأمن لا الظلم والإذلال والتسلط والحقد والكراهية والحرب والعدوان.
من الأمثلة الساطعة في هذا المضمار نسوق حديث الخلافة على منهاج النبوة. الحديث يقدم وصفا وتحقيبا معجزا لتاريخ الأمة الإسلامية ويقسمه من ناحية القضية المصيرية، قضية الحكم إلى خمس مراحل:
– مرحلة النبوة.
– مرحلة الخلافة على منهاج النبوة الأولى.
– مرحلة الحكم العاض.
– مرحلة الحكم الجبري.
– ومرحلة الخلافة على منهاج النبوة الثانية.
وصدق الله ورسوله. فقد كانت النبوة المباركة وجاءت بعدها الخلافة الأولى الراشدة ثم جاء بعدها الحكم العاض الفاسد ثم الحكم الجبري الغاشم الذي نعيش اليوم أواخر لحظاته القاتمة المؤذنة بالخلافة الثانية على منهاج النبوة.
وسينصر الله جنده وهذه تباشير الخلافة الثانية تلوح بالأفق ويعم نورها أرجاء العالم. وما تنامي هذه الصحوة الإسلامية المباركة وظهور الحركة الإسلامية إلا آية من آيات الله تعالى على صدق وعد الصادق الأمين واقتراب زمن النصر والتمكين لدينه وعباده الصالحين.
واقرأ في كتب أصحاب الإديولوجيات، الماركسيين منهم خاصة واللبراليين، تجد تخبطا وترهات وخرافات وأخطاء فادحة في المذهب والمنهج وفي تحليل التاريخ وتحقيبه تقوض نظرياتهم المادية “العلمية” العتيدة من أساسها. لا نقارن ولا نقيس، لكن نلاحظ على أدعياء العلمية والواقعية ونكشف زيف أقوالهم ونظرياتهم على الرؤوس المسكينة المتنكبة لشرع الله وهدايته. أقرا إن شئت عن مرحلة الشيوعية الحالمة في الفكر الماركسي وعن نهاية التاريخ لـ فوكو ياما في الفكر اللبرالي.
3- ثالث هذه القواعد هي الأجر والجزاء:
لا فصل في عقيدتنا ومبادئنا وعملنا بين الدنيا والدين. الدنيا مزرعة والآخرة حصاد.
الأجر عندنا حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة من الله تعالى. الأجر والجزاء الذي نطمح إليه في كل أعمالنا رضاه عز وجل والجنة. أجر عظيم عال يتطلب مجهودا وبذلا(تضحيات) كبيرا. فعلى قدر الجزاء يكون العمل. و”المناضل” ينال جزاءه في حدود الدنيا بمصلحة دنيوية قد يصل إليها وقد لا يصل. وليس له عند الله شيء: “من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب”(سورة الشورى، الآية20).
المؤمن الذي يربط أجره بالآخرة، بالجنة، برضا الله عز وجل، يكثر من العمل الصالح ويحسنه حتى يكون الجزاء أكبر وأعظم لأن الجنة كما جاء في القرآن والسنة درجات ومقامات: “وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا”(سورة الإسراء، الاية21).
على قدر الأجر والجزاء يكون البذل والعمل (التضحية) والتفاني في نصرة المبدأ وخدمة الناس. وهل هناك ثمن أعظم وأجل للمؤمن الصادق من رضا ربه والفوز بمحبته وقربه؟!
يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: “ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة”. الجنة سلعة لله غالية يتطلب بلوغها عملا كبيرا. وارتباط المؤمن المجاهد بهذا الواصل عقلا وروحا ووجدانا يضفي على سياسته الدينية عامل القوة والمتانة والصمود والتحمل.
غايتنا الله عز وجل. ومن كانت غايته الله عز وجل هان عليه ما وجد واسترخص كل شيء في سبيله سبحانه وتعالى.
4- رابع هذه القواعد هي قاعدة الحافز والباعث:
العمل، أي عمل، دون بواعث وحوافز عرضة للضمور والفشل، إن عاجلا أو آجلا. والدين في هذا الباب عامل مهم وحاسم فهو يعطي لأصحابه قوة معنوية هائلة في الإيمان بالقضية والثقة في النفس والثبات في العمل لا تقاوم.
الدين والإيمان الذي يعتبره الآخر رجعية وظلامية، وفي أحسن الأحوال شأنا خاصا هو بالنسبة للإسلامي الحركي المجاهد صمام الأمان ضد كل عمليات ومناورات المستكبرين والمستبدين من إغراء وترهيب وقمع وبيع وشراء ومساومة واحتواء. إنه يرفع روح المجاهد ومعنوياته وهو يجاهد في واقعه على الأرض إلى مستوى الكمال الإنساني، ويصنع منه ذلك الإنسان المبدئي المسؤول الذي لا يباع ولا يشترى، ولا يبيع ولا يشتري في حقوق الشعب ومصالحه.
ولعل فراغ المناضل الحزبي من الباعث والحافز الإيماني الروحي هو السبب الأول والرئيس في بؤس السياسة المادية وما عرفته وتعرفه من إفلاس ونكسات في البلاد الإسلامية وغيرها.
يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين: “وعلى المرتبة الإيمانية الإحسانية الأخلاقية لجند الله، وعلى نموذجية سلوكهم وتفانيهم في نصرة دين الله يتوقف نجاح الخطة. فإنه لا يقيم دين الله في الأرض إلا مؤمنون جسمهم وجهدهم هنا وطموح روحهم في الآخرة”. (العدل، الإسلاميون والحكم، ص132).
وفي كتابه حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص12 يقول مبينا أهمية الباعث الإيماني ودوره الحاسم في الظفر بالسند الشعبي والالتفاف الجماهيري: “تريد أن تلحق بك الجماهير وتلتف وتقاتل من دونك؟ أين أنت من قول الله عز وجل: “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا”؟ آمنوا وعملوا الصالحات لوجهه سبحانه لا شركا سياسيا نفاقيا لتحصيل ولاء الناس. وما تحصل بالمظاهر النفاقية، إن حصلت، إلا على هتاف كلهبة التبن لا تلبث أن تنطفئ. وأنت لا بد لك من جماهير تصدق معك الكرة”.
5- خامس هذه القواعد هي القداسة والمسؤولية:
قالت فئة من اللائيكيين: “الدين مقدس، وإقحامه في السياسة تلطيخ له وتوسيخ!”. كلمة حق أريد بها باطل. مقولة تعكس بشكل جلي نظرتهم السلبية للسياسة على أنها كذب وزور ومكر ونفاق، كما تعكس رغبتهم في التحرر في ممارساتهم للسياسة من هذا الشكل من كل مسؤولية دينية أمام الشرع، أمام الله تعالى حتى يصوغوا لأنفسهم الكذب على الشعوب وخيانة الأمانة.
ففي الوقت الذي يرفض فيه الماديون الدين أو “ينزهونه” بهذه النية أو بتلك نقول نحن الإسلاميون بيقين وثقة كبيرين لا لف فيهما ولا دوران: الدين هو المصدر والمرجع والميزان والدستور المنظم للحياة الخاصة والعامة للمسلمين، وهو يضفي على العمل السياسي كغيره من أعمال المؤمن الدينية والدنيوية الطهر والقداسة والمسؤولية ويطرد الكذب والنفاق والمكر والخيانة من ساحته. السياسي المتدين حقا لا يكذب على الناس ولا ينافق الشعب ولا يخونه ولا يمكن أن يشترى أو يباع في سوق السياسة مهما كان الثمن.
من الأحاديث الدالة على قدسية السياسية الدينية والمسؤولية العظمى المحيطة بها الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود عن أبي ذر رضي الله عنه. قال صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي الجليل عندما طلب منه إمارة: “يا أبا ذر! إنها أمانة! وإنها يوم القيامة خزي وندامة! إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها”. والحديث الذي روا ه البخاري ومسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من ولي يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة”.
المسؤولية السياسية اليوم أمانة. وغدا حساب. وخيانتها والغش فيها خزي وندامة يورث غضب الله تعالى والحرمان من الجنة! وهل لـ”الجنة” و”غضب المولى عز وجل” حيز في قاموس الماديين ومفاهيمهم؟!
6- سادس هذه القواعد هي الأصالة والهوية:
أرض السياسة الدينية الصلبة وقاعدتها المتينة تكمن في تأسيسها على الدين الإسلامي الذي هو دين الشعب وهويته وأصالته وتاريخه وحضارته.
هذا العامل يعطي للخطاب الإسلامي وللعمل السياسي شعبية عريضة وقاعدة واسعة من المنخرطين والمتعاطفين ويرفعه إلى منصة الفوز والتتويج كلما سمح للإسلاميين بالمشاركة في المنافسة السياسية النزيهة. لذلك تحرص الأنظمة الدكتاتورية كل الحرص على إقصاء الحركات الحرة من الاستحقاقات الانتخابية بدعاوى مختلفة أهمها وأبرزها “خلط الدين بالسياسة” و”استغلال الدين من أجل أغراض سياسية ” و”تكوين حزب على أساس ديني”!!
و هي دعاوى تعكس بشكل واضح وعي كل من الدكتاتورية والجناح الإقصائي اللاييكي بالدين كقوة ومعادلة حاسمة في الإقناع والاستقطاب والنصر ينبغي إبعادها والتخلص منها حتى يخلو لهم الجو وتفرغ لهم الساحة ويضمنوا الفوز.
يقول الأستاذ المرشد في كتاب “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين”، ص 38 مبينا قوة وفاعلية هذه القاعدة: “هل اختار الشعب في الجزائر والأردن والسودان السير مع الإسلاميين لان برنامجهم خير من برامجهم؟
كلا! بل سار المسلمون ويسيرون إن شاء الله مع رجال الدعوة لأن رجال الدعوة معهم مشروع يتجاوز البرامج الترقيعية التفصيلية الانتخابية. معهم مشروع مجتمع يبني على أساس تعرفه الأمة وتثق به وتثق بمن يدعون إليه”.
7ـ سابع هذه القواعد هي الرصيد الأخلاقي والسلوكي:
ذلك أن الدين والسياسة الدينية تلزم “مناضليها” سلوكا وأخلاقا هي بمثابة الضابط والكابح ضد أي انحراف أخلاقي فردي يشين بسمعة المجاهد أو جماعي يسيء إلى سمعة المذهب أو الحزب.
ولئن كان في الفكر المادي مبادئ وأخلاقيات حافظة وواقية للياقة الأخلاقية لدى المناضل فإن الفكر الإسلامي يوفر للإسلامي مبادئ وأخلاقيات أشد وأقوى إذ يربطها بالله تعالى وبالآخرة وبالثواب والعقاب والجنة والنار والدرجات العلى عند الله عز وجل.
العامل الأخلاقي في الفكر الإسلامي ليس مجرد ضابط وظيفي محدود أو عامل مبدئي فردي، إنما هو عامل يرقى إلى درجة الإيمان والعقيدة لارتباطه الوثيق والعميق بمصير المجاهد الأخروي ومآله.
هذا العامل الأخلاقي بهذه القوة وهذه الحساسية يضفي على حياة المجاهد وسياسته الدينية كمالات المشروعية والمصداقية ويرفعه إلى ثقة الشعب. يثبته. يقويه… أمراض تعكسها بقوة الحملات المدوية المتكررة الداعية إلى تخليق الحياة السياسية في صفوف مؤسسات النظام والأحزاب على حد السواء. حملات عديمة الجدوى يائسة مادامت تفتقد إلى الباعث الإيماني الإحيائي التجديدي.
أصرخ ما شئت وبأعلى صوتك ضد الفساد الأخلاقي وانعدام المبادئ وموت الضمير وسيضل صراخك ونحيبك هواء في هواء ما دام الإيمان وتقوى الله ومسألة الثواب والعقاب والجنة والنار ووجه الله تعالى ورحمته ورضاه مصطلحات ومفاهيم غريبة عن قاموسك. وما الأخلاق عافانا الله وإياكم يا دعاة التخليق؟
الأخلاق ثمرة لا غرس، وتجل لا أساس. الأخلاق ثمرة وتجل لغرس الإيمان وتقوى الله عز وجل.
اسمعوا إلى معلم البشرية يخبر عن مكان الإيمان ويقول مشيرا إلى قلبه الشريف: “الإيمان ها هنا”. ويخبر في حديث آخر بأن هذا الإيمان يبلى ويذبل ويأمر بتجديده عليه الصلاة والسلام ويقول: “إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب. فجددوا إيمانكم”. ثم يصف لنا كيف نجدده قائلا: “… أكثروا من قول لا إله إلا الله”. (رواه الإمام أحمد والطبراني وصححه السيوطي).
في السنة الشريفة منهاج تربوي مفصل كامل عن شروط التربية وشعب الإيمان وتحصيل الإيمان والتقوى. وبهذا المنهاج النبوي فقط لا بغيره يثمر العمل الصالح وتنتشر المثل العليا من صدق وأمانة ووفاء بالعهد ومسؤولية وتواضع وبذل … ومن حاد عن المنهاج النبوي في تربيته فاته تحصيل الإيمان، ومن فاته تحصيل الإيمان أنى له أن يشم رائحة الأخلاق والمثل العليا؟
8ـ ثامن هذه القواعد هي المثال والرمزية:
من أشد العوامل وقعا وأثرا على الأعضاء والمتعاطفين على حد سواء إخلاص ومبدئية قادة الحزب ورموزه ومسؤولوه وأطره. لذلك فأكبر خطر يهدد القاعدة والجماهير هو هذا العامل المعنوي الداخلي. فلا شيء أفتك بالحزب من ضعف القيادة أو خيانتها أو تبديلها.
إن ما يزيد التيار الإسلامي قوة وتجدرا غناؤه بقيادات ورموز شامخة راسخة قدمت لأعضائها وللعالم، ولازالت، المثال الرائع البليغ في الصدق والإخلاص والثبات والمبدئية والشجاعة والرجولة. رجال ساروا على درب الرجال الذين قال فيهم الحق عز وجل: “من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وما بدلوا تبديلا”(سورة الأحزاب، الآية23).
هذا الفضل وهذه النعمة من تجليات المرجعية الإسلامية على أصحابها، من ثمار بنائها السياسي الراسخ في الربانية والعصمة والأصالة والإيمان والفضيلة.
وتصفح في سجل وتاريخ بعض القادة الماديين تجد العجب العجاب في التبديل والخيانة والبيع والشراء. ردة بالجملة لا عد لها ولا حصر، تارة باسم واقع الشعوب وتارة باسم الواقعية السياسية وأخرى باسم “العلمية”. تحول مهول رهيب على مستوى الإيديولوجية والمذهب تقرأ بشاعته في الانقلاب العجيب من”الثورة” إلى “الانبطاح”، ومن “الشيوعية الحالمة” إلى “اللبرالية البشعة”، ومن “الحزب الوحيد” إلى “الديمقراطية والتعددية”، ومن”التأميم وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج” إلى “التحرير والملكية الفاحشة والخصخصة الكاسحة”!!…
كارثة ردة القيادة هته وخيانتها تبيد وتنسف أي عنصر من عناصر القوة داخل الحزب. تبدد الجهد. تفقد المصداقية. تهد القاعدة. تفض الجماهير. تورث الفشل والإفلاس واليأس من التغيير والإصلاح والتيئيس من دعاته ورواده.
تلكم كانت قواعد السياسة الدينية. وهي كما ترون قواعد قوية متينة لا يسع العاقل إلا تحيتها والانحناء أمامها إجلالا لمبادئها وأصولها والاعتراف بها والانخراط في فعلها. أو على الأقل، الإيمان بحقها في الوجود والممارسة.
فما يشوش إذن صورة السياسة الدينية في فكر وخيال الديمقراطيين والمفكرين والمثقفين ويحول بينهم وبين العودة إلى خالقهم عز وجل معانقة دينهم والاعتزاز بهويتهم الإسلامية الأصيلة الخالدة؟