للصيف طبيعة خاصة، ففيه العطلة السنوية والسفر، وخلاله يميل الناس أكثر إلى الاسترواح عن النفس، وفي الصيف أيضا تظهر عادات وسلوكات إيجابية وسلبية…
فكيف يكون الصيف فرصة تجمع بين الاسترواح والتخفيف من المشاق التي تلازم الإنسان طيلة السنة، وبين الجد والحفاظ على التكاليف الشرعية وترسيخ العادات التي يستفيد منها دهره كله؟
في هذا السياق تعرض بوابة العدل والإحسان سلسلة “حوارات خفيفة” حول جملة من القضايا التربوية والترفيهية والمعرفية… ارتباطا بهذه الفترة الهامة من السنة.
اليوم مع حوار حول السلوك الأمثل للطلبة والتلاميذ في فترة الصيف، بين الانغماس في مقررات الموسم الدراسي الموالي وتنمية المهارات والاطلاع العام، مع الأستاذ رشيد الوهابي الباحث في الشأن الدراسي.
عندما يحل الصيف يتوقف الموسم الدراسي في انتظار انطلاق الموسم الموالي، وفي الوقت الذي ينطلق فيه العديد من التلاميذ والطلبة نحو اللعب والسفر والسياحة، ينكب البعض على مطالعة برنامج السنة الموالية والإعداد لها. ما الأمثل من وجهة نظرك حتى لا يصاب التلميذ بالتخمة اتجاه المقررات الدراسية من جهة، وحتى لا ينقطع عن المواد التعليمية نهائيا؟
بداية، أبارك لبوابة العدل والإحسان أداءها الإعلامي المتميز، واهتمامها بشريحة التلاميذ والطلبة التي تعد قلب المجتمع، وأمل الحاضر والمستقبل، وأشكرها على إتاحته هذه الفرصة التواصلية معها.
سؤالكم وجيه يعكس نظرة التلاميذ والطلبة للعطلة الصيفية، وطريقة تعاملهم معها، فهم بين مستغرق وقته في الترويح عن النفس سفرا وسياحة -ويمثلون الأكثرية-، ومسترسل في مراجعة مقرره الدراسي لهذه السنة، والاستعداد للموسم الدراسي القادم -وهم قلة-. ولا يخفى على كل تلميذ أو طالب يملك الحد الأدنى من التقدير للوقت والتدبير له أن كلا التعاملين يحملان انعكاسات سلبية:
– فالذي ينقطع طيلة الصيف للعب والسياحة دون التفات للبرنامج الدراسي، يُفوت على نفسه فرصة تثبيت مكتسباته المحصلة في المواد الدراسية، ويُضعف إيقاعه التعلمي، فيجد بطئا وصعوبة في الانخراط في مستواه الدراسي الجديد. وهذا للأسف ديدن العديد من التلاميذ والطلبة.
– والذي ينقطع طيلة الصيف لتثبيت حصيلته التعلمية، وتعزيز قدرته الاستيعابية لما سبق تعلمه، واستطلاع ما يستقبل دراسته في السنة المقبلة، دون تخصيص وقت للترفيه عن النفس، يُغلب الاهتمام بحاجته العقلية على حساب إشباع حاجته النفسية، وتلبية حاجته البدنية، ويحرم نفسه من تنمية بعض الجوانب في شخصيته كالتواصل مع الأصدقاء، واكتشاف عوالم حياتية جديدة قد لا يُسعف الوقت لاكتشافها في زحمة الشغل الدراسي.
جوابا على سؤالكم، فالأمثل في نظري -استحضارا لطول العطلة الصيفية- بالنسبة لكل من التلميذ والطالب هو الموازنة بين التعلم والترويح عن النفس، تحصيلا لفوائد جمة ومنافع جليلة تعود عليهما بالنفع في الحاضر والمستقبل، ومن أهمها:
– الحفاظ على الحد الأدنى أو المتوسط من إيقاع التعلم، فيدوم التلميذ أو الطالب على مراجعة مواده الدراسية، ويتهيأ للبرنامج الدراسي المقبل اكتشافا واستئناسا، تصفحا ثم تفحصا قدر الإمكان، بمفرده أو بمعية زملائه. وفي ذلك قال ناصح لطالب العلم:
داوم على الدرس لا تفارقه .. فالعلم بالدرس قام وارتفع
– تعزيز التعلم الذاتي بناء للمعارف، وتنمية للمواقف، وتدربا على المهارات، ووقوفا على الترابطات المعرفية بين دروس مادة دراسية لهذه السنة من جهة، وبين دروسها للسنة المقبلة من جهة ثانية، ولو بشكل أولي؛ ذلك أن التعلم بناء متدرج يتدرج في الصعوبة وفي العمق من مستوى دراسي لآخر.
– تقوية الارتباط بالطموح الدراسي والطموح المهني الذي رسمه التلميذ أو الطالب، من خلال قطع المسار الدراسي بأسلاكه ومستوياته بسير حثيث منتظم.
– الترويح عن النفس، وتفجير طاقاتها، وتطوير إمكاناتها، سياحة مع العائلة لتمتين الروابط العائلية، أو تخييما لتنمية الاستقلالية الذاتية، والروح الجماعية، والتعلم التعاوني، أو ممارسة للرياضة ترقية للياقة البدنية، أو تواصلا مع الأصدقاء، أو مزاولة لعمل مدر للربح، حافظ للكرامة، صائن للأخلاق والقيم، أو قياما بأي نشاط آخر مفيد ومثمر، فمن شأن ذلك تسلية النفس، وتجديد نشاطها، وبعث الحيوية فيها لاستقبال عام دراسي جديد بثقة أكبر وعزم أفضل وطموح أقوى.
ويفيد لتحقيق الموازنة بين التعلم والترفيه وضع برنامج محدد الأهداف، مرن في التطبيق، يراعي الإمكانات الذاتية، والظروف المساعدة والمعيقة. ومما ينبغي مراعاته في العطلة الصيفية من الناجحين في البكالوريا المقبلين على التسجيل في المعاهد والكليات، ذلك الانعطاف الجديد في مسارهم الدراسي، فيلزمهم الاستعداد النفسي والعقلي، واليقظة المنتبهة، والاختيار الموفق للتخصص المحقق للقصد والرغبة، والمنسجم مع الكفاءة والقدرة، إلى جانب الحركة الهادفة الملائمة للمطلوب مكانا وزمانا وشروطا.
هل تحبذ أن تكون المطالعات في مرحلة الصيف عامة تطور من ثقافة ومعرفة التلميذ والطالب بما يعطيه عمقا أكبر ومعرفة مفيدة بالحياة أم لصيقة بالبرنامج الدراسي؟
يشكل الاطلاع على البرنامج الدراسي السابق والمقبل جزءا مهما من البرنامج الصيفي للتلميذ والطالب للفوائد التي سبق ذكرها، والاقتصار على ذلك ينغلق بهما عن فتح آفاق رحبة واسعة، وارتياد عوالم جديدة. صحيح أن تخصيص وقت لمطالعة الروايات التي ستتم دراستها في مادتي اللغة العربية واللغة الفرنسية، أو حفظ السورة المقررة في الثانوي الإعدادي أو التأهيلي، أو قراءة الكتب المبرمجة في السلك الجامعي إن كانت معروفة، أو غير ذلك مما يخدم البرنامج الدراسي، يعتبر أمرا مهما ومفيدا للغاية، لكن التوسع في المطالعة بما يغذي ملكات التلميذ والطالب التعلمية، ومعارفهما الدراسية من جهة، ويوسع ثقافتهما ومعرفتهما بمجالات الفكر والعلم المختلفة، ومناحي الحياة المتعددة من جهة ثانية، أمر لا غنى عنه لمن يروم تطوير مختلف جوانب شخصيته، وترقية حسه القرائي، وعقله المنفتح، وفكره الناقد الذي لا يجعله إمعة تابعا، ولا شخصا مفعولا به، بل يجعله مستقلا في اتخاذ قراره، ورسم مساره، وإدارة مسؤوليته، وتدبير حياته، نافعا لنفسه وأسرته وبلده وأمته والإنسانية جمعاء. ويمكن للتلميذ والطالب في مطالعاتهما:
– مراعاة الحاجات التعلمية والميول القرائية.
– التدرج في تربية العادة القرائية، والتدرب على أنواع القراءة: السريعة والمتعمقة، التصفحية والتفحصية، والصامتة والجهرية…
– التنافس على القراءة مع الأصدقاء، وتبادل المقروء معهم.
إن وَلَعَ بعض التلاميذ والطلبة بالمطالعة أمر ليس غريبا عن تلامذتنا وطلبتنا. أذكر في سفر قبل أيام، ركب على متن الحافلة تلميذ -سيدرس أولى باكالوريا في السنة المقبلة- رفقة أخويه، وجلس بجنبي، وفتح رواية يقرب عدد صفحاتها من مائتي صفحة، وعمد لإنهاء قراءتها، فلما تجاذبت معه الحديث عن بداية تجربته القرائية، وعن عدد الروايات التي قرأها، أجابني بأنه أحس بميل ذاتي لقراءتها، وربما تأثر بأخيه الذي يدرس بإحدى المعاهد، وأنه قرأ لحد الآن ثلاث روايات، وحمل معه ثلاث روايات أخرى في خرجته السياحية، فعبرت له عن إعجابي بتجربته القرائية، ونصحته بالمزاوجة بين المطالعة لما يخدم البرنامج الدراسي والمطالعة الموسعة المُثقِفة، فذكر لي بأنه شرع في حفظ سورة يوسف المبرمجة في المستوى الدراسي الذي سيستقبله العام المقبل.
ما أجمل أن يعشق التلاميذ والطلبة القراءة، ويخصصون لها جزءا مهما من وقتهم وحياتهم حتى تصير عادة راسخة لا يمكن العزوف عنها بأي حال من الأحوال، وفي أي مكان من الأمكنة، أو زمان من الأزمنة. إن إشاعة التربية القرائية مسؤولية على عاتق التلاميذ والطلبة وأسرهم، لكن يتحمل نظامنا التعليمي النصيب الأوفر منها تفعيلا للمكتبات المدرسية، والأندية التربوية المهتمة بالقراءة والكتاب، كما يمكن للبلديات الإسهام في التشجيع على القراءة بفتح الخزانات البلدية، تشاركها في هذا التشجيع دور الثقافة والشباب، إلى جانب الإعلام الذي ينبغي أن يولي العناية في برامجه المخصصة لهذه الشريحة المجتمعية لعرض التجارب الدراسية الناجحة، والتجارب القرائية المتنوعة، والتعريف بالمكتوب والمقروء في الآداب والعلوم معا، تنويرا للعقول بالعلم النافع، وتربية للنفوس على القيم الإيجابية، وتكوينا لمجتمع قارئ واع.
هل يمكن أن يكون تعلم المهارات أفيد في هذه الفترة من الانحسار في الكتب والدفاتر؟
نعم، ثمة مهارات يمكن للتلميذ والطالب تدريب النفس عليها، وتمهيرها لبلوغ درجة التمكن فيها. ويمكن التمييز بين نوعين من المهارات:
– مهارات تخدم البرنامج الدراسي: كالمهارة القرائية التي تم ذكرها، والمهارة الكتابية التي ينبغي أن توازيها، فيتدرب التلميذ على تلخيص الدروس، والمقرواءات من الكتب والروايات… وعلى كتابة الموضوع الإنشائي بمهاراته المستهدفة، وبمختلف اللغات المدروسة، وعلى كتابة المقال الفلسفي، والإجابة عن السؤال الفلسفي، وتحليل نص فلسفي، وعلى كتابة المقال التاريخي والجغرافي. نفس الشيء بالنسبة للطالب، يتدرب على تلخيص مقروءاته، وعلى المهارات الكتابية التي تناسب تخصصه الدراسي.
– مهارات تصقل المواهب وتنمي المؤهلات: يمكن للتلميذ والطالب التدرب على كتابة عروض للإلقاء، أو خواطر، أو قصص قصيرة، أو محاولات شعرية وزجلية حسب الميل، أو تقرير وصفي عن يومياته في المخيم أو خارجه، كما أن العطلة الصيفية تعد فرصة ثمينة لتنمية قدرته الاكتسابية للغات الأجنبية، ومهارته التواصلية بها، أو صقل مواهبه في الإعلام (تصوير، إنتاج، مونطاج،…)، أو في الموسيقى أو غيرها من المواهب أو المهارات كصنع الأجهزة الكهربائية أو الإلكترونية، أو البرمجة المعلوماتية…
ختاما، إن التلميذ أو الطالب الذي يحسن اغتنام عطلته الصيفية تثبيتا لحصيلته التعلمية، وتربية لعادته القرائية، وتطويرا لمهاراته، وصقلا لمواهبه، وترويحا عن نفسه سفرا وسياحة، يشعر بالرضى الذاتي، وبالسعادة والقوة والعزم على استئناف المسار الدراسي بنَفَس جديد، وأفق واسع طموح. ولا سبيل إلى ذلك إلا بتقدير قيمة الوقت، والحذر مما يضيعه، خصوصا الإدمان على استعمال وسائل الإعلام الجديدة، دون ترشيد للوقت، وحسن تقدير في الاختيار.