الحمد لله الذي جعل القرآن أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهداً برب العالمين جلَّ وعلا، والصلاة على خير من تلا كتاب الله وبيّنه وتخلق بأخلاقه.
وقفة تدبرية مع آية هي بمثابة قاعدة ربانية عميقة، سهلة المبنى في ظاهرها عميقة المعنى في باطنها، يقول فيها الحق تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9].
نعم؛ القرآن هو الهداية والبشارة والنذارة، هداية للخلق أجمعين؛ مسلمهم وكافرهم، وبشارة لأحبابه، ونذارة لمن عاداه وتنكب عن صراطه المستقيم.
“إن هذا القرآن”، إشارة إلى كلام الله الحاضر في أذهان الناس الذي يعرفونه ويحفظونه ويتلونه آناء الليل وأطراف النهار. وليس المراد القرآن كله، بل الآية من القرآن قرآن كما قال تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ [سورة القيامة: 18].
“يهدي”: فإن وقفت عليها عند تلاوتها، تبين لك شمول الهداية دونما سبب أو شرط، فقلوب الخلق بين أصبعي الرحمان يقلبها كيف يشاء، وهو سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فكم آية كانت سببا في هداية لا شقاء بعدها لمن سمعها ووعاها، فهذا جُبَيرُ بنُ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه قَدِمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد وقعةِ بَدرٍ في فداءِ الأسارى، في العامِ الثاني من الهجرةِ، وكان إذ ذاك مُشرِكًا، فقال: (سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَےْءٍ اَمْ هُمُ اُ۬لْخَٰلِقُونَۖ (33) أَمْ خَلَقُواْ اُ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضَۖ بَل لَّا يُوقِنُونَۖ (34) أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ اُ۬لْمُصَيْطِرُونَۖ كاد قلبي أن يطير) 1.
قال ابن كثير: “فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك [2].
“للتي هي أقوم”: هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.
فطوبى لمن جعل كل آية يقرؤها أو يحفظها إمامه، ينتهي بنهيها ويأتمر بأمرها، قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: إن استطعت أن تجعل القرآن إماما فافعل فهو الإمام الذي يهدي إلى الجنة، ومن مصنف عبد الرزاق الصنعاني: عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَجُلا، قَالَ لَهُ: إِنَّ إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلامَ، قَالَ: “وَأَنْتَ فَأَقْرِئْهُمُ السَّلامَ، وَقُلْ لَهُمْ: فَلْيُعْطُوا الْقُرْآنَ بِخَزَائِمِهِمْ 2، فَإِنَّهُ سَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقَصْدِ وَالسَّهُوَلَةِ، وَيُجَنِّبُهُمُ الْجَوْرَ وَالْحَزُونَةَ.” يَعْنِي: بِخَزَائِمِهِمْ، يَعْنِي اجْعَلُوا الْقُرْآنَ مِثْلَ الْخِزَامِ فِي أَنْفِ أَحَدِكُمْ، فَاتَّبِعُوهُ وَاعْمَلُوا بِهِ” 3.
“هي أقوم”، مطلقة أفرادا وأمة، لا تتقيد بصوابنا أو خطئنا، ما توكلنا على الله حق التوكل وأخذنا بأسباب النصر جهادا وإعداداً في تدبير أنفسنا وأموالنا ومجتمعنا، فسيبقى القرآن، ولو انتكسنا وتولينا، التعليم الأقوم، والتكليف الأرشد، والتوجيه الأسلم، والتدبير الكفيل بالنتائج الأحسن.
نسأل الله أن يفتح مغاليق قلوبنا لنفهم عنه ولنتدبر آياته، والحمد لله رب العالمين.
[2] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الدمشقي، تحقيق محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1419 هـ، ج7، ص406.
[3] المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي الهند، ط 2، 1403هـ، كتاب فضائل القرآن، بَابُ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَفَضْلِهِ.