تقديم
قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (الذاريات: 56).
غيب فقه ترقيق القلوب في العصر الحاضر وأصبح الحديث عن حب الله كلاما سطحيا خاليا لا يلهب القلوب ولا يجعلها تأنس به، وإن من أهم قضايا التجديد عند الإمام عبد السلام يسين رحمه الله هي قضية إحياء الربانية في الأمة وهي: تعلم صغار الأمور قبل كبارها وترقيق القلوب بذكر الله ومعرفة الله وحب الله. يقول رحمه الله تعالى: “إن حاجة الأمة مزدوجة لإحياء الفقه الأول الدال على الله، وعلى حب الله، وعلى حب رسول الله، وعلى الدار الآخرة، ولبعث اجتهاد نستقل فيه عن تقليد ما بلِيَ من اجتهاد، خاصة الفقه المكبوت المسكوت عنه: فقه الحكم والشورى والدولة والسياسة” 1.
ورغم وجود صحوة إسلامية بانتشار الفكر الإسلامي وتوبة الشباب وانتشار الحس الجهادي والوعي الحركي والخبرة السياسية، وإقبال هذه الأجيال من أشبال الإسلام تحفظ القرآن وتلتهم كل حديث عن الإسلام وأمجاده، لكن إن تحدثت عن معرفة الله والسلوك إلى الله، حملقت الأعين وارتابت القلوب وأحجمت العقول.
فما هو السلوك؟ ومن أين الطريق؟ وكيف السبيل إلى التهمم بالسلوك إلى الله تعالى على خطى الأولين للمرور من هذه الدنيا العجيبة الغريبة وقد فزنا بسعادة الدنيا والآخرة؟
معنى السلوك
“السلوك إلى الله عز وجل، والسير إليه، عمل منصوص في الكتاب والسنة، كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس به. كان معنى القصد إلى قرب الله عز وجل بالتعبد، ومعنى طلب الحظوة عنده والزلفى لديه بالأعمال الصالحة علما مستقرا عندهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة».
معناه أن السلوك كان من البديهيات ومما يعلم من الدين بالضرورة. معناه أنهم كانوا يتمثلون حق التمثل أن الدين إسلام وإيمان وإحسان، وأن الناس تتفاضل، وأن الأمر درجات يندب القرآن وتندب السنة إلى المسابقة إليها في مثل قوله تعالى: سَارِعُوا وقوله تبارك اسمه: سَابِقُوا وقوله عز من قائل: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ“ 2.
والسلوك هو ما يخالج القلب من لواعج الشوق إلى الله، وهو الدافع للتواصي بالحق وهو الله عز وجل، قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (يوسف: 108)، والتواصي بالصبر مع الذين يريدون وجه الله. فإن لم تكن لي ولك إرادة، ولا شوق، ولا تعلق بالحق، فلا نهاية لحسرتنا، “وإن لم يكن لي ولك تصديق بأن من لم يجعل الله له نورا فماله من نور، وأن لله عبادا وإماء يتولاهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور، ويجعل لهم نورا، وأن النور يقتبس من قلوب العارفين بالله بالصحبة، ومن ذكر الله عكوفا على بابه، ومن صدق الإرادة والطلب، ودوام الحضور والوقوف بالباب” 3، أما الإرادة الهابطة الحابطة مع الدنيا وزخرفها فيثاقل بها رفقاء السوء بعضهم بعضا.
فهو إذن، سير وطريق تقطع مسافاتها، وغاية يسعى إليها. ما هي طريق معبدة سهلة، بل هي طريق وعرة، عقبات وامتحان وإرادة واقتحام. لا يمكن أن نرقى إلى درجة الإيمان والإحسان إذا لم نتقن أركان الإسلام، “بيت ديني خراب إن كانت أركان إسلامي نفاقا، وشهادة زور، وترك للصلاة، وبخلا بالزكاة، وصوما لئلا يقال، وحج ليلقب حاجا، وذاكرة تاريخية عن عهد مضى وانقضى” 4. الإسلام اعتراف بالقلب ووفاء بالعمل واستسلام لما أمر الله به ورسوله.
أهمية السلوك في حياة المؤمنة
من آثار سلوك المؤمنة إلى الله عز وجل استكمال الإيمان، وبذلك ترسم الطريق للمؤمنات لتعرف مرامي الدين في التعامل الإيماني لترشد المؤمنات الوافدات عليها بعد ما ترشد أنفسهن إلى قواعد البناء ومواضع الأقدام. روى الترمذي حديثا صحيحا انفرد به عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَن أحبَّ للَّهِ وأبغضَ للَّهِ ، وأعطى للَّهِ ومنعَ للَّهِ فقدِ استَكْملَ الإيمانَ” 5؛ الحديث يضع في المرتبة الأولى من الاعتبار الإخلاص، فهو يفسر الحديث العظيم الذي يعتبر من أسس الإسلام وقواعد الإيمان ودوافع الإحسان الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ فَهجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ، ومن كانت هجرتُهُ إلى دنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينْكحُها فَهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليْه” 6.
وبعد النية والإخلاص تكتسب المؤمنة فضيلة الحياء من الله؛ فلا تجرؤ على إتيان منكر أو كذب أو بهتان أو قول الزور. في حديث شعب الإيمان يقول صلى الله عليه وسلم: “الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ” 7، ثلاث خصال تراودك أخت الإيمان بقراءة هذا الحديث؛ فهو يعطي وسيلة التربية القلبية ذكر الله بقول لا إله إلا الله، ويصف ثمرة الإيمان في خلق الحياء الذي يورث الإحسان، الإحسان إلى الوالدين وذوي القربى والرحم، والدفع بالتي هي أحسن رفقا بالخلق وملاطفة، فالحياء كله خير، وإلا يقول صلى الله عليه وسلم “إذا لم تستحْيِ فاصنَعْ ما شئتَ” 8، ويتنزل إلى تلمس دلائل الإيمان بالمشاركة في حمل هموم الأمة في أسهل الأعمال وأبسطها كإماطة الأذى عن الطريق، حاذيها في كل ذلك كتاب الله وسنته لا تزيغ عنهما ولا تحدث في هذا الدين ما ليس منه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمنا عائشة رضي الله عنها “مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ” 9.
ثم تطلع المؤمنة على حديث جبريل فتتعلم منه أن الدين مراتب. قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “أطلبُ إلى المؤمنات الناظرات في هذا الكتاب أن يحفظن حديث جبريل الذي بين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة مراتب الدين إسلاما، وإيمانا، فإحساناً. إنْ لاَ تفهم المؤمنات دينهن على أنه مدارج ومعارج للترقي في درجات الآخرة والقرب من الرب الرحيم سبحانه، بطل أمر الله تعالى لإمائه وعباده في قوله: سَابِقُوا وقوله: سَارِعُوا، ووصفه للآخرة أنها درجات يفضُل بعضها بعضا، وتُستحق بالعمل الصالح والنية الخالصة والإرادة السامية” 10.
وبهذا يتمكن حب الله من قلب المؤمنة فينير الجنبات دون أن يزاحمه حب يساويه أو يفوقه حتى وإن كان حبا فطريا يعترف به الشرع كحب الأولاد، أو حبا في الله يحث عليه الشرع، بل ينبغي أن ترى في ذلك المؤمنات نعما من الله يجب شكره عليها. يقول الإمام عبدالسلام ياسين رحمه الله تعالى: “باب الكرم الإلهي مفتوح، والشرط في الأمة هو الشرط، سواء فيه أولها وآخرها. الشرط النية والإخلاص والصدق في العمل واتباع الرسول الهادي. أيُّما أمة وفت بالشرط، وأيما عبد، فالنداء الإلهي يصدق عليه. من أراد بنيته وإخلاصه وعمله واتباعه الآخرة ونعيمها فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا” 11.
[2] عبد السلام ياسين، الإحسان، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ج 2، صص 326-325.
[3] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط 2018/2، دار لبنان للطباع والنشر، ص 116.
[4] عبد السلام ياسين، الشورى والديموقراطية، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ص 123.
[5] أخرجه أبو داود (4681)، والطبراني (8/159) (7613).
[6] أخرجه البخاري (1)، وأبو داود (2201) عن عمر بن الخطاب.
[7] أخرجه مسلم (35).
[8] أخرجه البخاري (6120).
[9] أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
[10] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر، ج 1، ص 261.
[11] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، م. س. ج 1، ص 257.