المؤمنات والعمل الصالح.. السلوك إلى الله (2/2)

Cover Image for المؤمنات والعمل الصالح.. السلوك إلى الله (2/2)
نشر بتاريخ

باب السلوك توبة نصوح

تعترض المؤمنة عقبات في الطريق وأشقها عليها الدنيا والنفس والهوى، فما السبيل؟

إذا كانت بعض الظلمات تحجب أنوار الطاعات والتوفيق وعناية المولى بسبب الذنوب والمعاصي والغفلة عن الله فإن “أشد الأهوال مُظْلِماتُ النفس وتُرَّهاتُها وتعاظُمُها وكبرياؤها. يهون الحجاب الزمني أمام حاجِبِيَّتِها. وما أوقات العمر كلِّه إلا محطاتٌ لنزواتها وتحولاتها وتقلباتها. وما للسالك إلى الله عز وجل من راحة من أفعى نفسه حتى يخرج من سلطانها ويكسر سوْرَتها بمطرقة الذكر على سندان المخالفة والمحاسبة حتى تفيء إلى أمْر الله” 1.

النقلة من المعاملة النفسية الملتوية إلى المعاملة القلبية المستقيمة نقلة نوعية؛ نقلة من أرض الوباء النفسي، أرض المزالق والمهاوي والسقطات، إلى سماء الوفاء القلبي.

لا شك أن الطريق شاق، إنه امتحان وابتلاء، إنها عقبة النفس والهوى، إنها الدنيا تطغى على أنفسنا وعلى بناتنا وأبنائنا ليتحكم فيهم الهوى فيمسك بإرادتهم ليقودهم إلى الهلكة الأبدية والخسران المبين. قال تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (النازعات: 37).

فالصبر والتواصي به والنهي عن الهوى هو الذي يقود المفلحين إلى الجنة ويتقبل عملهم، يقدمهم على غيرهم صالح الإيمان وصالح العمل وبات العزم، لا النزعات الساقطة الخسيسة، والصبر صبران: صبر “على”، وصبر “عن”؛ صبر عن: هو الإمساك عما يقتضي العقل والشرع الإمساك عنه، وصبر على: وهو حمل النفس وإرغامها وإن كرهت على أفعال وأخلاق وعبادات يأمر بها العقل والشرع، قال تعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (الفرقان: 75-76) (صبر على الطاعات وصبر عن المعاصي).

والمرأة الصالحة مدعوة لكسب الفضائل ومقاومة الرذائل وامتلاك القوة الإيمانية والإرادية لترقى صعداً في معارج الكمال الروحي والعلمي والخلقي، القوة الذاتية هي قوة الإيمان وإرادة الإيمان المتوجهة الوجهة المرضية عند الله، الواعية بصعوبة الطريق السعادي ووعورتها وعقباتها، السخية بالمال والنفس تبذلهما ثمنا بخسا لجزاء الغرفة والتحية والسلام والنظر إلى وجه الله الكريم.

فما السبيل؟ كيف أتهمم بالسلوك إلى الله عز وجل؟

تبدأ المؤمنة تهممها بالتساؤل عن ذاتها وإيمانها وكمالها؛ “السؤال الدائم المزعج المنجي: ما ثقتي بربي، ما صدقي معه، ما صدقي في طلب رضاه، أين أنا من الصادقين الذين يعبدونه رغبا ورهبا، ما حظي من يقين الصادقين، ما رضاي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، ما مسارعتي إلى نيل الدرجات في الجنة عنده؟” 2.

تلك ومضة اليقظة وشعلة الحسرة وحرقة الشوق، “يقظة قلبية نفسية تلك التي تمسح عن القلب ما يغطيه من صدإ المعاصي والغفلات والجهل بمعنى الإنسان ومصيره ووجوده” 3، وبها فقط يسكن في سويداء القلب هم المصير الأخروي ولواعج الأسف عن الغفلة، وحسبها في ذلك أن تعقب الهبة القلبية واليقظة الإحسانية محاسبة ومراجعة ومتابعة.

قبل الحديث عن شرط السلوك، لابد أن نتواصى بالحق وذلك بتوجيه رسالة “لأنفسنا وللإنسان أن يكون الله عز وجل غاية كل فرد من العباد أن يكون ابتغاء رضاه والسباق إلى مغفرته وجنته، والسير على مدارج الإيمان والإحسان لمعرفته، والوصول إليه والنظر إلى وجهه الكريم، منطلق الإرادة وحادي المسارعة وقبلة الرجاء” 4.

يقول الإمام عبد السلام ياسين: “إن الله عز وجل يعطيك على قدر همتك وصدقك وإخلاصك. اجتهد وتعرض واطلب، فإن منك لا يجيء شيء، ولابد منك. تكلفْ في تحصيل الأعمال الصالحة كما تتكلف في الرزق” 5.

أول شرط للسلوك صحبة تدلك على الله

لابد للمؤمنة المتشوقة إلى الله المجاهدة في سبيله المريدة وجهه المتهممة من صعوبة الطريق، من صحبة تنير لها الطريق وتدلها مع من ألهمهم الله أسرار القلوب ومجالسة العلماء العارفين بالله ذوو الاختصاص في تدقيق العلم وترقيق القلوب بدوام الذكر ويقظة القلب على سبيل السعادة، إذ إن من “لا يرى المفلح لا يفلح” كما قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله. فلتقومي أختي كل ما جن الليل ولتتوضئي وتصلي ركعتين وتقولي: يا رب دلني على صحبة صالحة تدلني عليك وتعرفني طريقك فالسبب لابد منه، فتشي أختي على من يكون مرآة لوجه دينك، فإن لم تجدي فلتبك على نفسك. فإذا وجدت المؤمنة ضالتها، علمت أن السلوك إلى الله عمل وجهاد لا تبرك وانزواء.

من السلوك الفردي إلى جهاد يحيي الأمة

فهل من مرجع إلى السنة النبوية الجامعة بين الجهاد الأكبر جهاد النفس وبين الجهاد الأوسع جهاد نصرة الله في الأرض؟

“المجاهد من جاهد نفسه” كما جاء في الحديث النبوي، فهل من سبيل لتتويج جهاد النفس بجهاد يحيي الأمة ويمكن لدين الله في الأرض؟

إذا كان تهمم المؤمنة بالسلوك الفردي عمل يرضاه الله تعالى ويحبذه، إلا أنه وحده لا يرقى بالمؤمنة إلى مدارج الإحسان ومدارج السالكين المجاهدين إلا إذا كان تهممها بمصيرها الأخروي مرتبط بتهممها بمصير الأمة تأسيا بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والصحابيات. روى الحاكم في مستدركه “عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”في الجامع الصغير إشارة لصحته..

ولن يستطيع حمل همّ الأمة إلا من أحكم تربية نفسه وتزكيتها. يعلق الأستاذ عبد السلام ياسين على الحديث السابق بقوله: “إنه لا يستطيع حمل هم الأمة، وهو ثقيل، إلا من أصبح همه الله، وغايته طلب وجهه، فهانت عليه الشدائد، واسترخص الموت في سبيل محبوبه” 6.

فسلوك المؤمنة ليس معناه الفهم الصوفي للسلوك بما هو انزواء وانعزال عن نهر الحياة الجاري، بل يؤكد الإمام رحمة الله عليه أن السلوك الحقيقي يكون باستحضار معية الله وعبادته خوضا في معركة الحياة وتدافعا فيها لا انعزالا عنها، مما يتطلب، ليس فقط كمالا إيمانيا ورسوخا في زمن العبادة، بل يضاف إليه كمال خلقي يشع بأنواره وسمو معدنه على الخلق، وكمال علمي يمكن من اكتساب الأدوات الضرورية للمعرفة، وكمال جهادي تدافعي بان لمجتمع العمران الأخوي وأساسه لبنة الأسرة المسلمة. كمالات أربع تطلبها المؤمنة إن هي أرادت وجه الله ولا يعفيها كمال من باقي الكمالات.

هذا الفهم التجديدي لسلوك المرأة يعطينا نموذجا مخالفا لما هو سائد عن دور المرأة المسلمة رسخته قرون الانكسار والتخلف والانحطاط التي حرمت المرأة من تربية متوازنة ومتكاملة كما كانت عليه الصحابيات الجليلات، وما مكنتهن منه هذه التربية ليكن محسنات عابدات متبتلات وأمهات صانعات لمستقبل الأمة وعالمات مجتهدات ومجاهدات عاملات غير خاملات، وما أحوجنا لمثل هذه التربية الآن لإحياء الأمة والنهوض من وهدة التخلف والانكسار.

قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (الأحزاب: 46).

وإنك أخت الإيمان مدعوة لنشر الدعوة إلى الله عز وجل حتى تكوني من الشاهدات بالقسط، ولن تنالي هذه الشهادة إلا بالحضور المسؤول وبالتغلغل في الأمة بالصبر والمثابرة والحركة النشيطة، وسط جماعة المؤمنات وعبر محاضن وبرامج وأنشطة تتشربين فيها معاني الصحبة والتشوف للمقامات العالية، وتشعين من خلالها في الأمة؛ تأمرين بالمعروف وتنهين عن المنكر بالوجه الباش، والدعوة إلى الخير على بصيرة، بعدما طهرت قلبك من النفاق وأزلت عنك حجب الغفلة تأسيا بسيد الخلق؛ السراج المنير كما وصفه الله عز وجل وكما علم أصحابه وعلمنا، حيث تترقين من إسلام لإيمان لإحسان عندما تؤدين أمانة البيعة وتحافظين على أكبر مقصد من مقاصد الشريعة ألا وهو حفظ الدين؛ بالتبليغ عن الله والدعوة إليه وحفظ النسل بصناعة جيل الخلافة على منهاج النبوة، وتخصصين لذلك وقتا وبرامج فيكون طلب وجه الله “عبير جو العمل، وريحانة رياضه، وحادي سيره، ونجي خلواته، وشعار جلواته” 7.

إن تغيير حال هذه الأمة ورفع الظلم عنها وتحريرها من أيدي الفاسدين واسترجاع مكانتها، لا يكون إلا ببناء الشخصية المؤمنة العالمة العاملة الواعية بمسؤولياتها انتصارا للدين وانتصارا للمستضعفين؛ بدءا بتغيير ما بالنفوس إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ. ولا يمكن السلوك بدون تدافع لامتلاك قوة الآلة والعلم النافع، ولا يمكن السلوك دون توفير الغذاء، يقول الأستاذ ياسين رحمه الله: “إن التفقير المادي والخلقي الذي تعاني منه مجتمعاتنا يستدعي عدالة اجتماعية مثلما يتطلب إحياء تربويا، لأن الانحطاط المادي مصدر البؤس الخلقي” 8.

إضافة إلى كل ماسبق، يوجهنا القرآن الكريم في الآية 30 من سورة الروم حيث يقول تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا؛ فالدعوة واضحة هنا إلى الاستقامة الطوعية الخلقية والروحية. لكن التأثيرات الكثيرة والعوائق المانعة من السلوك إلى الله عز وجل، ومنها الأسرية والاجتماعية والثقافية، قد تجتهد كلها بالانحراف بالفطرة السوية، ومن ثم يصبح دور التربية وسط جماعة المؤمنات الصالحات، تقويم الاعوجاج الذي أنتجه المحيط الاجتماعي.

ونختم بقول الإمام رحمه الله تعالى: “وتغيير ما بأنفسنا تربية وتنظيما وزحفا هو وسيلة التغيير من غثاء لقوة” 9.


[1] عبد السلام ياسين، الإحسان، م. س. ج 2، صص 340-393.
[2] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات. م. س. ج 1، ص 6.
[3] المصدر نفس، ص 351.
[4] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط 2022/5، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستانبول، ص 22.
[5] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، م.س. ص 128.
[6] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، م. س. ص 169.
[7] عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر، ص 35.
[8] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ط 2023/3، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، إستنبول، ص 147.
[9] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، م. س. ص 354.