إن العوامل الخارجية المتدخلة في المنظومة التربوية التعليمية وكذا العناصر الداخلية المشكلة لها كل مركب ومتكامل، ولذلك فإن أي خلل في إحدى هذه العوامل أو العناصر لا محالة سيلقي بظلاله سلبا على الأخرى، وبالتالي على نجاح عمليات المنظومة برمتها، ومن ثم فلا يدعين من يروم إصلاحا لأحد الجوانب بمعزل عن غيرها أنه يقدم حلولا ناجعة لداء هو في الحقيقة أعمق مما يتصوره. على هذا فشد يدك يا أخي، لكن بالمقابل هل يفيدنا الإمساك عن التباحث والتداول فيما يمكن إصلاحه من قضايا التعليم والتربية والتكوين بذريعة عدم اكتمال الشروط الذاتية والموضوعية لإرساء إصلاح شامل، فنبقى مكتوفي الأيدي لا نقترح ولا ندبر ولا نخطط في انتظار أن تمطر علينا السماء ذهبا وفضة؟ بالتأكيد لا ينبغي القول بهذا ولا يستقيم.
في هذا الصدد نريد أن نتطرق قليلا إلى مسألة نعتبرها محورية في القضية التعليمية، يتعلق الأمر بمعايير انتقاء وإعداد المعلم الفالح الناجح، ويتعلق أيضا بالحقوق التي تكفل حماية ظهره ليطمئن من جانب ضرورات المسكن والمركب، والغذاء والدواء، والزواج والاستقرار، ومطالب الأهل والولد، وضمان العيش الكريم، كما يتعلق بالمحفزات المادية والمعنوية التي تدفعه وتشجعه ليكون منشرحا مقبلا لمضاعفة الجهود، ومنجمع الهمة لأداء الأمانة الثقيلة على أحسن الوجوه.
مواصفات المعلم المربي
المرشح لمهنة التربية والتعليم والتكوين عن جدارة واستحقاق هو بادئ ذي بدء شخصٌ قُدوةٌ ذو رحابة صدر ودماثة خلق، ويمتلك قدرا كافيا من الكفاءة العلمية والقدرة التعليمية التكوينية، وعلى خبرة محترمة بالطرق البيداغوجية والديداكتيكية، وعلى اطلاع لا بأس بعلم النفس النمائي والتربوي، وينبغي أن تكون شخصيته متوازنة بين الحنو الرحيم والصرامة الضابطة، وبين البسمة المؤلفة المُحببة والنظرة الجادة الموجهة، وينبغي أن يكون ذا شخصية اجتماعية تعاونية، يخفض الجناح من غير ضعف ومذلة. فعندما يتطلب الأمر مثلا اتخاذ قرار تربوي تعليمي ضمن صلاحيات ومصالح تلامذته، فإنه لا يستفرد به على طريقة القائد الجبار، بل يتخذه بعد إشراك وشورى وإقناع، يعدل في توزيع نظراته واهتمامه، وفي عطفه ورفقه وصرامته، ويشعر تلامذته بأهميتهم وكرامتهم جميعا بالرغم مما يقتضيه التنويه بالمتميزين والأخذ بأيدي المتعثرين.
إن لم يكن المعلم ذا مجموع مقبول من حميد الخصال، فأنى لأنوارها أن تشع منه وهيهات لأسرارها أن تسري منه إلى المتعلمين، لأن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقول المثل العربي.
لكن قد يقول قائل: “فمن أين لنا بأشخاص بهذه المواصفات الملائكية؟!”
لا شك أننا نكون حالمين نسبح في فضاءات الخيال والأمنيات المعسولة إذا كنا نزعم إيجاد هذه المواصفات بسهولة وبالقدر الكافي في أوساط مجتمعات نخرها ولا يزال الاستبداد السياسي و الفساد الإداري والظلم الاجتماعي والانحطاط الأخلاقي لقرون طويلة من الزمان، لكن سنة الله في الكون تقتضي التدرج، وما لا يدرك كله لا يترك جله، فإذا كان طلب الكمال فضيلة، فإن عدم توفره يفرض بذل الجهود لتنمية الجوانب الناقصة في الشخصية، صحبة ونصيحة وتوجيها وتكوينا وتعليما، إذ من المعلوم أن لدى الإنسان قابلية للتأثير والتأثر والتأقلم، وأنه يملك قدرة على التربية الذاتية والتغيير الذاتي إذا توفرت له الإرادة والعزيمة وغير ذلك من العوامل الذاتية والموضوعية المشجعة الموجهة التي يمكن أن تغير الكثير مما هو طبعي وراثيا فما بالك بما هو كسبي اجتماعيا.
هناك والحمد لله من لهم القابلية للتطور والنمو في الاتجاه الإيجابي وما أكثرهم، فمنهم يتم انتقاء فئات المربين المصلحين وتأهيلهم بحول الله.
أما صاحب الطبع الحاد والمزاج المتقلب، السريع الغضب والانفعال وغير ذلك من سيء الخصال، فليبحث له عن مهام خارج هذا المجال، فلا فائدة من ضرب الحديد البارد على كل حال.
عملية انتقاء واختيار المرشحين لأعظم مهنة كونية لا يكفي أن تقتصر على مجرد مباريات كتابية وشفوية يتسرب من خلالها الغث والسمين إلى المنظومة فيضربها في المقتل، بل ينبغي أن يضع ضوابطها وآلياتها وشروطها أهلُ الخبرة والتجربة الميدانية، الراسخون المشهود لهم بالكفاءة العلمية والعملية والسلوكية، لا كل من هب ودب ينبري، بين عشية وضحاها، ليتصدى لأخطر مشروع على حاضر الأمة ومستقبلها عبر وسائل في غاية الخسة والخيانة من رشوة وزبونية ومحسوبية.
حقوق المعلم المربي
عندما نظفر برجال ونساء من ذلكم المعدن النفيس نكون قد سهلنا المأمورية وقطعنا شوطا لا يستهان به في طريق إنجاح مهام منظومتنا التربوية التعليمية، فيكون لزاما علينا ألا نفرط في شخص من تلك الطينة الطيبة المباركة، ويكون من واجبنا أن نهيئ المجتمع والتلاميذ والطلبة والمسؤولين لمعرفة جلالة قدره وحسن التأدب معه، وأن نلجم ألسنة السفهاء أن تنال من مكانته، محبة له وإكراما واحتراما، قال الشاعر الحكيم:
قم للمعلم وفه التبجيلا ** كاد المعلم أن يكون رسولا
إن أكثر ما يكون الجندي جاهزية وإقبالا على المواجهة عندما تكون الجبهة الداخلية قوية متماسكة، ويكون أثبت على الثغر بقدر ما يكون محمي الظهر، وإلا هاجمه الجبن والخوف حتى يتمثل حال أمثال أولئك الذين قص علينا ربنا جل جلاله في كتابه العزيز قولتهم “إن بيوتنا عورة”، لما تسرب الجبن والنفاق إلى قلوبهم.
فهل يستقيم أن يتوجه المعلم المربي إلى حلقته العلمية أو قسمه الدراسي وهو مهموم يعد الأيام المتبقية لحوالته الشهرية، وهو في الطريق إلى العمل، ولربما حتى في قاعة التدريس يحسب ويعيد الحساب والبرمجة ثانية و ثالثة ورابعة لتلك الحوالة التي تعجز عن الوفاء بالتزامات الكراء والماء والكهرباء، وديون البقال والخضار والجزار، ناهيك ملابس الأطفال ومطالب الزوجة، ودواء الوالدين، وهلم جرا؟
كثيرا ما يقال عن رجل التعليم في بلدنا “مسكين” أو “شحيح” وغيرها من النعوت الدالة على الإشفاق أو التحقير المرتبطين بقلة ذات اليد وبوضاعة الدخل مقارنة بمعظم فئات الشعب من الحرفيين والتجار والموظفين العاملين بباقي الوزارات والقطاعات الأخرى، طبعا لا نتحدث هنا عن العمال المياومين المقهورين ولا عن المعطلين المظلومين، فحالة أولئك أشد وأقسى، فرج الله تعالى عنهم أجمعين.
تأمل معي أخي الكريم مثال مدرس يتقاضى مثلا 6000 درهم شهريا ويعمل في مدينة يستحيل فيها نهائيا أن يمتلك سكنا خاصا، يستهلك واجب الكراء بالإضافة إلى فاتورة الماء والكهرباء من أجرته نحو 2500 درهم، وقد تلزمه فاقة الأبوين في البادية المحرومة قرابة 1500 درهم أو أكثر أو أقل بحسب ما تمليه الضرورات، هل يكفيه الباقي للمعاش والتنقل واللباس والفراش والدواء؟؟ ناهيك عن نفقات الدخول المدرسي وعيد الأضحى وعطلة الصيف! أما الحديث عن إمكانية القيام بجولة خارج البلاد فهذا آخر ما يخطر على البال، أليس بيت الأستاذ “عورة” أيها المجتمع؟ فكيف تنتظر منه أن يقوم بواجبه خير قيام؟
لا تنظروا إلى ذلك الأستاذ الخمسيني الذي اشترى مؤخرا سيارة عن طريق السلف بعدما تمكن من بناء بيت في ضاحية المدينة، وبالكاد أتم ديون البناء، وقد مضى شبابه وابيضت لحيته واشتعل الرأس شيبا، تنسون يا كرام أنه عاش زهاء ثلاثة عقود من الضيق والتقشف والحرمان! لا ريب أنها أثرت سلبا على عطائه المهني، إن ذلك “الإنجاز الأعجوبة” الذي تمكن من تحقيقه ببركة “السلم 11” كان من حقه الطبيعي أن يحصل عليه ويستريح من همه منذ بداية عمله الوظيفي حتى لا ينشغل به ويشغله عن الأمانة العظمى المنوطة به، كان من حقه منذ البداية أن يُكفى هموم المعاش الكريم والسكن اللائق وكافة متطلبات من هم تحت كفالته ورعايته منذ توقيعه على تحمل المسؤولية العظمى ليتفرغ لها ويوفيها حقها.
إن الأمم الراقية هي التي عرفت منذ البداية “من أين تؤكل الكتف”، اسألوا عن اليابان كيف تعاطت مع التعليم وتعاطفت مع المعلمين، واقرؤوا إن شئتم تصريح السيدة أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا كيف ردت على موظفين كبار في الدولة كانوا يطالبون برفع أجورهم إلى مستوى أجور رجال ونساء التعليم هناك، في كلمة واحدة تلخص مكانة التعليم في ألمانيا وحقوق المعلم وعظمته وهيبته، قالت لهم: ” أتريدون أن أسوّيَكم بمن علموكم؟” وأمثال هذا كثير في الدول المتقدمة التي استثمرت في التعليم، فأفلح التعليم في قيادة قاطرتها التنموية، أما في ظل الأنظمة الاستبدادية المتخلفة التي تريد إبقاء شعوبها على حالة التخلف والحرمان، فهناك يُنظر إلى التعليم على أنه عدو لدود مثقل لكاهل الميزانية.
واجبات المعلم المربي
حالة البلاد والعباد ومتطلبات البلاد والعباد يراها المعلم من خلال تلك العيون البريئة التي تصطف أمامه صباح مساء، فهو يقرأ الوضع التربوي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي من خلال تلك المجموعة الماثلة بين يديه التي هي عبارة عن عينة ملخصة للمجتمع برمته، من هنا تكمن عظمة المعلم، وتكمن جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه.
من هذا المنطلق على المربي أن يتعامل مع التلميذ ويستوعبه كما هو، على أساس أنه بمثابة “منتوج” من معمل الأوضاع السوسيولوجية والسيكولوجية والاقتصادية والسياسية التي خرج منها ويعيشها، أستغفر الله من هذا الوصف، استعرت هذا التعبير من المجال الاقتصادي لكون الحالة النفسية والسلوكية للتلميذ نتاج الأوضاع المحيطة بتنشئته، فليس هو من اختار بنفسه لنفسه أن يكون مثلا على حالة من الإهمال واللامبالاة، أو الفوضى والشغب، أو الكسل والتعثر والفشل، لا لوم عليه إذن على جميع علله.
ماذا يبقى من دور الأستاذ المربي لو جاءه التلميذ مجتهدا نظيفا مخلقا موفقا في كل شيء؟ لقد خُفف معظمُ الحمل إذن سواء عن الأستاذ أو عن الآباء والمجتمع، ولم يعد لوجود المربي من دور أكثر من مجرد التشجيع والتحفيز والتوجيه، لكن هذا نشاز، أما الحقيقة فهي بعيدة كل البعد عن هذا مع الأسف، الوضع العام لتلامذتنا لا تخفى صعوبته على أحد من العاملين في الميدان، ولا يعلم حجم المعاناة التي يقاسيها السادة المدرسون إلا المدرسون أنفسهم، وبالخصوص في التعليم الثانوي بسلكيه، حيث يمر التلميذ بأصعب مرحلة عمرية، تتميز بالمشاكسة والتحدي والشغب والاضطرابات النفسية والجنسية والسلوكية، فتعظم مسؤولية المربي إزاء هذه الظواهر، ويجب عليه أن يبذل ما وسعه من جهد لتوجيه هذه الطاقات الجانحة، يتحمل فيها المسؤولية بلا سند حقيقي من الآباء ولا من الإدارة ولا من الدولة، فقد سحبت القوانين الحقوقية البساط من تحت قدمي المنظومة التربوية كلها حتى غدت عاجزة عن كبح جماع رعونات وانحرافات الشباب أمام مرآى ومسمع من كافة الأطر التعليمية التربوية.
أما الأوساط الشعبية فقد أُشيع فيها عن قصد أن المعلمين في نعيم وحبور في مهنتهم وأنهم يتقاضون أجورا مرتفعة يُغبطون عليها مقابل عمل مريح!
من اختار الانخراط في هذه المهنة النبيلة الشريفة رغم صعوبة ظروفها وحيثياتها وزهادة دخلها، فعليه أن يشمر على ساعد الجد ليصبر ويعلم ويربي ويوجه و يرشد الناشئة، نكران الذات والصبر على الآفات من شيم المربين الموفقين الغيورين على مصلحة البلاد وفلذات الأكباد، ومن الغبن أن تقتصر الهمة على حوالة الشهر القاصرة فحسب، بل ينبغي أن يكون مرمى نظر المعلم المربي الفالح الناجح هو رضوان رب العباد يوم المعاد.
خاتمة
هذا موضوع ذو شجون، وقد يفضي الغوص فيه إلى سجون، وحسبي أن أختم بطرح هذه التساؤلات المفتوحة المحرجة لمن يهمهم الأمر: من ينتقي من؟ ومن يختار من؟ من يضع المناهج والبرامج؟ ومن يوفر الحقوق، أو بالأحرى من ينتزعها، ومن يتابع إنجاز الواجبات؟ ما هي الأهداف القريبة والغايات البعيدة من هذا التعليم أساسا؟
متى أجبنا بدقة ووضوح وصدق وعمق على هذه الأسئلة ومثيلاتها وقمنا بأجرأة مقتضياتها على أرضية الواقع، نكون قد وضعنا اقدام منظومتنا التربوية التعليمية التكوينية على سكة الصواب.