ليس خافيا على أحد أن الأنظمة الحاكمة في العالم العربي جاءت معظمها نتاج مشروع سايكس بيكو الذي قسم هذا العالم إلى دويلات تحكمها أنظمة تمثل امتدادا سياسيا واقتصاديا وثقافيا للاستعمار الغربي. وقد لعبت النخب الحاكمة دورا طليعيا في تمكين الاستكبار الغربي من المقومات المادية والمعنوية للشعوب المسلمة وفتحت له جميع النوافذ للعودة لفرض هيمتنه غير المباشرة على مصير هذه البلدان والتحكم في قراراتها وتوجيه سياساتها.
وبما أن أي نظام سياسي لا يحكم فقط بالقوة المادية بل يحتاج في الأساس إلى أنماط من الشرعية ومستويات من المشروعية تمكنه من الاستمرار في فرض سيطرته، فقد ابتدعت النخب الحاكمة في العالم العربي أنماطا من الشرعية تمارس من خلالها سلطاتها وتحكّمها وتجعلها تكأة ومبررا لقمع معارضيها. وبهذا ظهرت الشرعية الدينية والشرعية القومية والشرعية الوطنية وشرعية الإنجاز وغيرها. وقد اعتمدت جل الأنظمة العربية، رغم اختلاف صور تشكلها، على هذه الأنماط من الشرعية في ممارستها للحكم واستحضرتها طيلة العقود الأخيرة مع اختلاف في توظيفاتها حسب السياقات والزمن ومراعاة للتحولات التي طرأت هنا أو هناك.
لكن أين صارت هذه الشرعيات في وقتنا الحالي؟ هل ما زال تأثيرها فعالا في إقناع الشعوب العربية؟ أم تلاشى وتبدد؟ هل ما يزال العرب مقتنعين أن الملك الفلاني أمير للمؤمنين حقا وأن ذاك حامي الحرمين حقا وصدقا وأن الحكام أمناء على قضية الأمة المصيرية، قضية فلسطين؟ هل استطاعت مشاريع التنمية وسياسات الحكام العرب أن تنتشل بلدانهم من وطأة الفقر والجهل والتخلف وتقفز بهم في سلم التطور الحضاري أم إن الانتكاسات تتوالى على كل صعيد؟ هل الشعوب العربية في مجملها مقتنعة بشرعية الإنجاز التي تسوقها الآلة الدعائية للحكام؟
إن التحولات التي تجري في الوطن العربي وتتعمق بسرعة كبيرة تنبئ عن تغيّرات عميقة هي بصدد التشكل، فالأنظمة العربية دخلت منذ مدة في حالة من الشيخوخة والخرف، وفي الخوف الهستيري من الزوال أو الاستبدال من طرف السيد المهيمن على مصيرها ( الاستكبار العالمي) وهو ما يفسر حجم التنازلات التي تقدمها هذه النخب وحجم انقيادها وراء سياسات هذا الاستكبار وصلت حد التواطؤ معه بل والتباري في التزلف إليه ضد المصالح الحيوية لبلدانها إلى درجة تحريضه على التنكيل بشعوبها والتطوع لتوزيع القهر والتخلف وزرع اليأس فيها.
لقد أدركت هذه النظم السياسية كلها من الخليج إلى المحيط أن الشرعيات التي أسستها وبنت عليها وجودها واستمرارها قد انهارت ولم يعد لها تأثير في الرأي العام في بلدانها لذلك صار الاعتماد على القوة الخشنة والدعاية المحرضة ضد الخصوم السياسيين هي الأداة ذات الأولوية، كما صار الهم المقيم المقعد لهؤلاء الحاكمين هو كيفية إشغال الشعوب عن تردي أوضاعها بالحقن الدعائية الزائفة والمعارك الدونكيشوتية المُلهية.
لكن هل يمكن إيقاف سيرورة التاريخ؟ وهل يمكن استمرار هذا الوضع على ما هو عليه؟
لا شك أن النظام العربي في صورته القائمة قد استنفذ منذ مدة مقومات وجوده والشروط الأساسية لاستمراريته، فهو يعيد نفس أساليبه الفاشلة ويراهن على تصاعد القوى الشوفينية في الدول الغربية ويعرض عليها خدماته. وبهذا نفسر انقلاب السيسي وهرولة أنظمة الخليج والمغرب للتطبيع مع العدو الصهيوني خدمة لأشد المتطرفين فيه ليستمروا في الوجود ويدعموا خدامهم في جرائمهم ضد شعوبهم المضطهدة.