أعاد مرض الرئيس المصري حسني مبارك إلى الواجهة أزمة الحكم في العالم العربي والإسلامي والتعاطي الرسمي معها. فعلى غرار كل الحكام العرب، يتحول الحديث عن مرض الحاكم أو عدم قدرته عن أداء مهامه من الجرائم الخطيرة التي تقتضي أشد العقاب والتخوين حتى أضحى الحكام أنصاف آلهة أو أصنام تعبد من غير الله. فلا يجوز الحديث عنهم، أو التحدث إليهم، أو تقديم النصح لهم فأحرى المحاسبة تجسيدا للمنطق الفرعوني ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. فقد تحول الحديث عن الحكام إلى طابوهات لا يجوز هتكها، أضفى عليها علماء البلاط والمنتفعون من أهل السياسة القدسية. كما أجاز الحاكم لنفسه التمديد من خلال إصداره ظهائر أو من خلال التلاعب في الانتخابات -يحصل الحكام عندنا على 99% من أصوات الشعب- لإظهار أن الشعب لا يستطيع العيش بدونه كما أنه ليس هناك من هو أكفأ منه، ومن دونه ستتوقف الدنيا ويتيتم الشعب بينما أغلبهم جاء إما عن طريق انقلاب أو وراثة من كان قبله. فظهرت بذلك جمهوريات ملكيات يورث فيها الأب الابن وإن لم يكن يصلح لذلك، إذ أن بعضهم غير قادر على حكم نفسه فالأحرى حكم الآخرين، فالغرض من هذا التوريث هو الحفاظ على أسرار العائلة مخافة أن يتعرف عليها الشعب وأن يتم كشف فضائح الأسرة والتعرف على الثروات التي راكمها الأب من خلال نهبه لأموال الأمة وقوت الشعب.
إلا أن الحديث عن أزمة الحكم ليست وليدة اليوم أو الأمس فهي قديمة جدا، وقد تطرق لها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة. فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة كلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة” 1 .
فقد حذر صلى الله عليه وسلم من هذا المنزلق الخطير المتمثل في تحول نظام الحكم لما يمثله الحكم من أهمية، وارتباط صلاح الأمة بصلاح أولي الأمر فيها والعكس صحيح، وكذلك التحول الكبير الذي ستعرفه الأمة المتمثل في الانكسار التاريخي وتحول نظام الحكم من خلافة إلى ملك وراثي. روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة. ثم سكت”.
هناك إشارة بالغة الدلالة في هذا الحديث تتمثل في تكراره صلى الله عليه وسلم عند الحديث عن النبوة والخلافة الأولى “ثم يرفعها الله ما شاء الله أن يرفعها” بينما لا نجدها عند الحديث عن الملك العاض والجبري على اعتبار ما يشوبهما من مزالق وتجاوزات وفتن، وما فيهما من ضياع للحقوق. فقد أخرج ابن سعد في الطبقات أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لسلمان: “أمَلِكٌ أنا أم خليفة؟” فقال له سلمان: “إن أنت جبـيت من أرض المسلمين درهما أو أقلَّ أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة! فاستعبر (بكى) عمر”). لقد كان السلف الصالح يفرون من المسؤولية مهما قل شأنها أو عظم ويقدرون ثقلها في الدنيا والآخرة، فهي تكليف وليس تشريف كما يظن البعض. فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرا منها فات الذي هو خير” 2 . فهذا الحديث يعتبر هاديا لمن أراد أن يهتدي من الأمة كما يعتبر موجها وتربية لعدم المطالبة بالمسؤولية، ليتم الاختيار والتكليف بكل نزاهة وحرية وبذلك يتصدى للمسؤولية من هو أحق بها، وليس من يطلبها أو يعض عليها بالنواجد كما يقع في عالمنا العربي والإسلامي، حيث يبقى الحاكم قابعا في كرسيه وإن بلغ أرذل العمر وفقد السيطرة على نفسه وعلى سلوكياته، حبا في المنصب وما يدره من نفع عليه وعلى المحيطين حول مائدته. وعلى غرار الحاكم انتقلت العدوى إلى باقي الفاعلين، فالأحزاب تربي أعضاءها على حب الرئاسة والمسؤولية وكلنا يشاهد ما يقع من انشقاقات وانسحابات عندما لا يتم اختيار أحدهم في هذه الدائرة الانتخابية أو تلك أو هذا المنصب أو ذاك.
إن الحكم النزيه ينبني على الاختيار الحر وشعور أفراد الأمة أن هذا الحاكم أو ذاك يعبر عن آمال الأمة وهمومها وليس العكس. هذه المعاني المفتقدة نجدها مجسدة عند الآخرين بينما نحن أولى بها لأنها من صميم ديننا، حيث نجد دساتيرهم تؤكد أن لكل مواطن الحق في الترشح للحكم مهما كان لونه أو مستوى عائلته بينما يقتصر الأمر عندنا على فئة دون أخرى، بهدف أن يبق متوارثا وسط العائلة حكما كان أو حزبا أو شركة.