الوجه الآخر للحضارة الغربية

Cover Image for الوجه الآخر للحضارة الغربية
نشر بتاريخ

إذا كانت الحضارة الإنسانية قد قدمت عبر التاريخ إسهامات إيجابية في شتى المجالات وهي إسهامات لا تنكر، أفادت لا محالة مسيرة الإنسان وزودته بكل مقومات التجدد والتغير والمراجعة والتطلع لما هو أفضل ونافع، فإن للحضارة الغربية وجها آخر قاتما يسوّد جبين الإنسانية لما ينطوي عليه التفكير والفعل الحضاريان من جرائم وآلام ومآس. ويمكن تلمس ما يسم وجه الحضارة الغربية هذا من خلال ما يأتي:

1- الدوابية

إن أهم ما يميز الحضارة الغربية الحديثة أنها حضارة دوابية، وتعود هذه التسمية حسب الأستاذ عبد السلام ياسين – رحمه الله – وهي النعت الذي أخذه مما جاء في القرآن الكريم من وصف ورد مرتين في سورة الأنفال كما في قوله تعالى: إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون 1 وقوله عز وجل: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون 2 ، إلى ما نشره تشارلز داروين سنة 1830، في كتابه، “أصل الأنواع” من فرضيات تقول بأن الإنسان ليس سوى حيوان متطور لم يخلقه أي إله من عدم. ومنذ ذلك الحين وصوت الدروينية يعلو ويعلن أن الإنسان خلق ذاته وأنه نتج عن فعله أي أنه غير مُمْتَنٍّ بوجوده لأحد. فأصبح الإنسان إله نفسه، خالق نفسه. وتلك هي الكرامة التي أرادها داروين للإنسان. أن يكون قردا في الأصل – مع فارق في طبيعة الخلق طبعا – وهو وصف يشعر كل ذوي ذوق سليم بالتقزز لا محالة.)فالمسلمة الدوابية إذن تجعل من الإنسان مجرد قرد راق لا غاية له في الحياة سوى الرفاهية والمتاع، وفي سلم القيم الدوابية الحضارية المادية حب الحياة.) 3 وقد انعكس هذا التصور على ممارسات الإنسان “المتحضر” وأفعاله وسلوكاته، التي غدت شبيهة بالدواب والبهائم، بل هم أضل…

ولا يقتصر الأمر في الحضارة الغربية على هذه المسلمة، بل إن روح الحضارة الغربية هي الوثنية الإغريقية الثقافية الفنية، والقانونية الرومانية الاستعمارية، والرواسب اليهودية النصرانية، والفلسفة التطورية الداروينية، والفردية اللبرالية المنفعية الاستهلاكية الدوابية.) 4 وهي روح بلا غاية ولا هدف، بل خليط من أمشاج لا يعطي للإنسانية سوى مزيد من الهلاك والدمار.

ومن أهم مظاهر الدوابية هناك الإباحية التي أصبحت في العالم اليوم معلنة تديرها مؤسسات إعلامية وشبكات لها نفوذها في العالم، ومن مظاهر الإباحية السياحة الجنسية والنخاسة الجديدة التي كشفت عنها الواجهات الزجاجية لبيع النساء من مختلف الجنسيات. وتصبح الإباحية إذا كان الإنسان لا معنى له، وكان الموت لا حياة بعده، هي عين الحياة. ويصبح التهتك فضيلة إنسانية رفيعة، والمتعة زهرة العمر، غبي محروم من لا يقتطفها يانعة أشكالا وألوانا.)والمرأة إذا كان الأمر كذلك هي مركز الرغائب. جسدها عاصمة الشهوة، وزينتها قمة الحضارة، ورقصها أمام الرجال روح الفن، والمتعة المباحة المشتركة بها أساس العدل.)وهما إديولوجيتان متعانقتان وبضاعتان متكاملتان: اللاييكية والإباحية. اللاييكية للجميع مغلفة بغلاف الديمقراطية وحقوق الإنسان للجميع. والإباحية للجميع ملتفة في غلالة شفافة يُجسدها ويمثلها على مسرح الواقع نساء في بعض شوارع الغرب ما يسترهن إلا كيس من البلاستيك الشفاف كما يستر الزجاج خلفه البضاعة على واجهة المتجر.) 5 فـنظافة شوارع جنيف وباريس تخفي قذارة الأخلاق وسرطان الإباحية. قمامات هذه الحضارة المبذرة التكاثرية تنشر في الأرض – خاصة في بلاد المستضعفين – وباء التلوث. قماماتها الثقافية الفنونية العارية الراقصة المجنونة تغطي الكرة الأرضية ببثها التلفزيوني الذي يقتل في الإنسان إنسانيته. المخدرات، والجريمة، والعنف، وبرودة العلاقات الإنسانية، والأنانية الفاحشة، والزنا المباح، واللواط المشروع، وتفكك الأسرة، واللائحة طويلة…) 6 : ففي منطقهم الدائر حول الحياة الدنيا، لا يومنون بالبعث، تكون اللذة والمتعة و”السعادة” هي المَطلَبَ لا غيرُ، وتكون المرأة والحرية في الزنى بلا حدود، والإجهاض وسائر “المكتسبات” الإباحية هي قمةَ الحضارة. وهذا منطق دوابيٌّ متماسِك) 7 .

ومن مظاهرها نجد الانحلال الخلقي وتلوث البيئة المهدد بخراب الكرة..) 8 والشهوة المفرطة غير المحدودة والشذوذ، فـكل ما تشتهيه الأنفس من متاع الدنيا وزينتها ولذتها نهْبٌ مُقَسَّم مُباحٌ في شرع “الحرية” الدوابية. لا حد لحقك في النهب إلا ما يرسمه القانون وتزجر عنه العقوبة. لا حلال ولا حرام ولا إثمَ إلا ما منع غيرَكَ من المشاركة الديموقراطية في نهب اللذات) 9 .

ويقترح الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله التغيير وتجديد الإيمان، فالتغيير مَنَعةٌ ضد الامتداد السرطاني للثقافة الدوابية) 10 . ولا يمكن لنا أن نرجع من اللغو الفكري، والسهو الغافل، واللهو بمنجزات الحضارة الوثنية، حضارة الحواس واللّذة و”السعادة” الدوابية إلا بتجديد إيماننا تجديدا ينشط في ظله العقل المشترك المنظم المحترم الصانع تحت إمارة القلب، ساعيا بين يديه إلى غاية الإحسان وأهداف العدل) 11 .

2- الإلحاد والكفر

كما تقوم الحضارة الغربية على الكفر والإلحاد ويتجلى ذلك في الاستخفاف بالدين وهتك حُرَمه، وفي اعتباره شيئا شخصيا وفي تصريح الفكر الغربي “العلمي” لما ينطوي عليه من قواعد ونظريات هي الحقيقة طبعا، باختلافه الكلي مع الدين الذي يعتمد على ما هو ميتا فيزيقي، وفي انتقاده لما جاء من شرائعه وتعاليمه ومبادئه، واعتبار هذا الانتقاد من أساسيات التحضر الذي ينبني على الحرية المطلقة التي لا حدود لها، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر جعل الطبيعة مؤثرا في الأشياء والوقائع والأحداث لا الإله الخالق، فيصرحون بأن الكوارث الطبيعية التي تحدث هي من غضب الطبيعة… ففي عصرنا فالكفر بالله وباليوم الآخر سِمَةُ الحضارة المادية الحواسية الدوابية) 12 . فقد دفَعَتْ بعضهم لإنكار الحق ووجود الله والدار الآخرة فلسفةٌ دهرية، أو تقليد لما كان عليه الآباء، أوْ تعليم في الطاحون الإلحادي، فغالب ما يمنع أبناء الدنيا من العبودية لله عز وجل تَسَرْبُلُهم في أنانيتهم واستكبارهم. قال جل وعلا:)والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 13 . يتقمصون الأنانية المستكبرة، أو تتقمصهم، فيتألهون ويؤلِّهُـون هواهم ومتاعهم وبضاعتهم وقوتهم. فيسعَوْن في الأرض فسادا، ينازعون الله عز وجل أوصاف الربوبية فيقصِمُهم هنا إن شاء بأيدي المستضعفين القائمين بالحـق، ويدَّخر لهم عذاب الآخرة وهوانها. روى مسلم وأبو داود عن أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:)“قال تعالى: الكبـرياء رِدائي والعظمة إزاري. فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار” 14 .

تبقى الخلاصةُ أن كل واحد مهتم بنفسه فقط، والكل منكر لله عز وجل.

3 – الاستكبار

ارتبط الاستكبار العالمي بفكرة الاستعمار والبحث عن الموارد الطبيعية واليد العاملة الرخيصة والأسواق التجارية عبر العالم، وظل الفكر الاستعماري مسيطرا على الحضارة الغربية حتى بعد أن تحررت شعوب كثيرة جغرافيا، لكنها بقيت رهن تبعية استعمار سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية. استكبار يقوم على نهب الخيرات وغزو التفقير والنهب، وعلى الاحتلال العسكري والاقتصادي والثقافي… وعلى الهيمنة المرتكزةِ القاعدةِ على “توازن الرعب” النوويِّ.

وبعد هذا فالآلة الاستكبارية هي الحضارة الرأسمالية بهياكلهـا وأجهـزتها، وامتدادها الأُخطبُوطي، وماضيها في النهب الاستعماري، وحاضرها، وروحها، وجسمها، ولَوالِبِها، وسيرها، وحركتها. آلة تصنع البؤس لأكثر من ثُلثي سكان المعمور ليَنْعَمَ بالترف القلةُ من المترفين.)قلت “المعمور”! لا بل المخروب. فإنها آلة تخريب وتدمير للعباد والبلاد.)جعجعة هذه الآلة وكلمتها وعقيدتها ووظيفتها التنمية بلا حدود، تنمية تصنع، تنتج، تستهلك. تستهلك لتنتج، وتنتج لتستهلك. والعباد لها خدَمٌ وتَبَعٌ. العباد لها عجلات مُضافة. بَيْدَ أن من العباد من تُطعمهم الحلو السمين ومنهم من تسحقهم سحقا. وكلا الفريقين مُستصرِخٌ بالحال أو بالمقال يضج من ظلم الآلة الشيطانية. ولكلا الفريقين عند الإسلام رسالةٌ، وعلى المسلمين حقٌّ أن يُصْرِخوه ويُغيثوه) 15 .

ويكون أولَ مظهر من مظاهر الاستكبار الأنَفَةُ مِنْ عبادة الله عز وجل. عِزَّة واستكبار هنا جزاؤهما الذل والعذاب هناك. قال تعالى:)إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخـرين 16 . ويُكَذِّبُ المستكبرون آيات الله، ويدفعون في صدر رسل الله، ويظلمون عبـاد الله المستضعفين. إن آمن منهم،)أتعلمون أنَّ صالحا مرسل من ربه؟ قالوا: إنا بما أرسل به مومنون! قال الذين استكبروا: إنا بالذي آمنتم به كافرون 17 .

ومن مظاهر الاستكبار العالمي الوصاية على العالم وفرض رؤية معينة وثقافة محددة من لدن الدول المستكبرة على المستضعفين في العالم، وكذا الكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر ببعض القضايا الحساسة والمصيرية كقضية فلسطين مثلا، ومسألة الديمقراطية كما يمارسها الغرب ويؤمن بها، لا كما يراها بالنسبة لمن يختلف معه ويعارضه ويريد الحفاظ على هوَيته، ديمقراطية تعددية خارج إطار الدين، وما قضية الانقلاب في مصر منا ببعيد… ومسألة الحقوق غير المرعية على درجة واحدة، ولأنها حقوقية فكّرتها ووضعتها وفرضتها دولٌ سيطرية لها المقومات، ولها الطموح، ولها الاقتناع بأنها الحضارة وغيرها همجٌ، فإن المتعارَف عليه دوليا لا يتسع أفقه لاعتبار خصوصية أحد، كما لا تتسع مكاييله وذهنيته ليساوِي في الاهتمام بين مواطن شريف أبيض اللون بروتستانتي يتكلم الإنجليزية وينتمي للدولة الأمريكية أو الأوربية وبين مواطن ملوّن من العالم المنسِيِّ، أو من الأمم المُلْحقة بالركب الحضاري المجيد. ولأنها حقوقية وضعها وفرضها وفكَّرها لائكيون أقْحاحٌ، فإن المتعارف عليه في القانون الدولي أن الإنسان كائن حُرّ من كلِّ فكرة أو دين أو مبدإٍ لا يتفق مع النظرة اللائكية الدوابية للإنسان. والمتعارف عليه دوليا هو بعد هذا واقع محمِيُّ الحِمَى، فانتقادنا مبادئه ومرجعيته وأصوله طرحٌ يأمُل بناء مستقبل للإنسان يكون فيه حق الإنسان في معرفة ربه، ومصيره، ومعنى حياته، أب الحقوق وأسَّها) 18 .

ومن مظاهر الاستكبار: الاستغلال الذي يتخذ أشكالا كثيرة اقتصادية واجتماعية وفكرية، فالاستغلال البشع للقرض الربوي والاستغلال البشع لقوة العمل النسائية، والاستغلال البشع للأطفال… كلها أشكال من الاستغلال الذي تمارسه الحضارة الغربية أو تسكت عنه لمصالح غير معلنة…

هذه الحضارة الظالمة الكالحة نَهِمة لا تشبع، تدور في فلك الشهوة والأنانية والعنف والتمرد الوحشي. فمنذ خمسمائة سنة وهي تنهب خيرات الأرض وتضع الأغلال في أعناق المستضعفين، وتبيد الهنود الحمر في أمريكا تقتل منهم مائة مليون ويزيد، وتسوق الزنوج الأفريقيين في سلاسل العبودية إلى حقول القطن وعيش الهوان.)على جماجم البشر ومن أرزاق المستضعفين المشردين بنت حضارتَها وثروتها. وبفائض الثروة المنهوبة استطاعت أن ترفع مستوى معيشتها، وأن تُفرِّغَ أبناءها للتعَلُّم، وأن تشيّد صرْحَ الصناعة، وهياكل البحث العلمي، وأن تسخر العالَم ومن فيه لخدمة النفوس الشاردة الماردة.)فهي اليومَ وجهُ الاستكبار أكثر ما كان قتامة وكُلُوحا وبأسا ونهَما وشرا) 19

ومن آثار هذا الاستكبار جعل العالم عالمين، عالم قائد متقدم منتفع ومستفيد من خيرات الشعوب ومن الموارد الغنية، وعالم مقود تابع فقير وجاهل يعاني من كل الويلات والمصائب ومن الإحساس بالدونية. كتب أحدُ خبراء البيت الأبيض الأمريكي في تقريره عن قِسمة العالم قال: “العالم اليومَ مقسم إلى معسكرين تسوسهما قواعد مختلفة اختـلافا جذريا: الاقتصاد ينظم الشمال، بينما القوانين التقليدية للقوة العسكرية تحكم الجنوب. هناك ثلاث نقط للتقاطع بين العالمين: النفط واللاجئون والإرهاب”.)معنى الكلام أن الأقوياء الأغنياء الأثرياء المترفين المستكبرين في الأرض جالسون على مائدة الاقتصاد العالمي، لهم فَيْضُه ولَنَا غَيْضُه. وهناك في الأطراف يائسون بائسون في مخيمات صبرا وشاتلا يُقَتلون، وفي شوارع فلسطين يقتنصون، وهم بين الفينَة والفينة يدفعهم اليأس والبؤس لمناوشة أعدائهم بسلاح الضعيف، فيمكننا أن نَمْسَح على جبيننا بدهن الأخلاقية الحضارية العالية ونشجُبَ الإرهاب.)معنى الكلام أنَّ نُقَطَ التقاطع بين العالمين النفطُ، للمحرومين من رِيعه مخيماتُ اللجوءِ ويأسُ احتجاز الرهائن، وللمُوالين للشمال الناعمِ حصة من تَرَف الجالسين على المائدة) 20 .

وخلاصة القول إن الرسالة الجليلة التي يحملها المسلمون، تدعوهم إلى نشر العدل والرحمة والرفق ودين الله بين الناس في الأرض. فدعوة الله عز وجل لنا للاستخلاف في الأرض، ووعده لنا بالتمكين فيها متى وفينا الشرائط الكونية الشرعية حافزٌ معنوي إيماني قوي لنزاحم أبناء الدنيا في الأرض، ونزحزحهم عن القيادة، ونقيم دين الله عز وجل، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونحكم بالعدل، ونَحنُوَ على الإنسانية بالإحسان) 21 .


[1] سورة الأنفال: 22.\
[2] سورة الأنفال: 56.\
[3] ياسين عبد السلام، الإحسان ج1، ص: 438.\
[4] ياسين عبد السلام، العدل، الإسلاميون والحكم، ص: 396.\
[5] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات ج1، ص: 100.\
[6] ياسين عبد السلام، محنة العقل المسلم، ص: 114.\
[7] العدل، ص: 283.\
[8] العدل، ص: 28.\
[9] العدل، ص: 169.\
[10] العدل، ص: 692.\
[11] الإحسان، ج1، ص: 308.\
[12] الإحسان، ج1، ص: 321.\
[13] سورة الأعراف: 36.\
[14] العدل، ص : 455.\
[15] العدل، ص: 468.\
[16] سورة غافر: 60.\
[17] سورة الأعراف: 76.\
[18] ياسين عبد السلام، الشورى والديمقراطية، ص: 163.\
[19] العدل، ص:464 – 465..\
[20] العدل، ص: 465.\
[21] العدل، ص: 194.\