للتوضيح فقط، لقد نعتهم بالأبرياء باعتبارهم إلى حدود اللحظة متهمين، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته.
مناسبة هذا المقال ما شهدته جامعة فاس سايس من أحدات مروعة إثر التدخل البوليسي في حق الطلبة المعتصمين للمطالبة بالسكن الجامعي، فقد كان الحدث الوطني بامتباز استشهاد الطالب محمد الفيزازي رحمه الله واعتقال العديد من الطلاب الذين أطلق سراح بعضهم وتم تقديم البعض الآخر للمحاكمة في ملفين أحدهما جنحي والآخر جنائي وكلاهما يخص طلبة ينتمون إلى حساسيات طلابية معينة.
ليس القصد ها هنا تبيان الملابسات السياسية لحادث الاعتقال، ولا التعاطي السياسي مع حادث الاستشهاد، وإنما المساعدة على تبيان الحقائق كما هي، نظرا لأن الآلات الإعلامية الموجهة وبعض الجهات الحزبية وكل الجهات الرسمية تحاول جاهدة إشاعة روايات بعينها وتوجيه القضية في مساق محدد.
لهذه الأسباب آثرت أن عرض الوقائع في هذا المقال كما سمعتها من شهود عيان وكما أفهمها في ساحة لست عنها ببعيد وفي رواية عن قوم ليسوا عني بمجهولين ولا خططهم ومبرراتهم عني بخفية.
وقبل عرض التوضيحات المتوخاة، أريد أن أقدم بين يدي القارئ بعض التساؤلات الضرورية والمفتاح لوضع هذه التوضيحات في نسقها المطلوب والكفيل برفع الالتباس، إن حصل هناك التباس، وتبديد اللبس إن حصل في القضية وجه من التلبيس أو تجسد كله.
ماذا تمثل الحركة الطلابية بما هي عليه اليوم من نضال تقوده أطراف طلابية وسياسية معروفة بالنسبة للنظام السياسي وآلته الأمنية؟
ماهي أسباب التدخلات الأمنية وتداعياتها بالجامعة في عمومها؟
على أية معايير تم إطلاق سراح بعض الطلاب والاحتفاظ بالبعض الآخر؟
ماذا تمثل فاس في الذاكرة اللاواعية للنظام والمواطن المغربي؟
ماهي الأولوية اليوم بالنسبة للعدالة بالمغرب: التحقيق في استشهاد طالب أو تقديم الباقي للمحاكمة؟
لماذا تصر المحاكم بالمغرب على نعت بعض تحركات الطلاب بنعوت تهم جنائية كالعصيان والاحتجاز والعرقلة عوض استعمال مفاهيم قانونية قريبة من الممارسة الطلابية كالممارسة النقابية والاحتجاج والإضراب والمقاطعة أوغيرها؟
لماذا يسكت الإعلام عن المزيد من نبش جوانب هذه القضية؟
الأسئلة عديدة جدا بهذا الشأن، ويكفي الإجابة عن البعض لفهم الأسباب الكامنة وراء سيناريوهات هذه القضية.
الآن ندخل إلى التوضيحات نوردها تباعا بكل اختصار:
الوقائع على الأرض
يعرف كل متتبع للشأن الطلابي، وإن لم يكن يعرف فبمجرد نقرة على موقع الاتحاد الوطني سيعرف، سيعرف أن معركة السكن بالحي الجامعي سايس تمتد إلى بداية الموسم الدراسي، بمعنى أننا أمام قضية الدفاع عن مطلب شرعي وبسيط متمثل في حق الطلبة في السكن وفق المعايير التي كانوا يعهدونها سابقا لا أقل ولا أكثر. بالإضافة إلى ذلك فقد شهد المسار النضالي عدة منعطفات، كان أهمها نزول مدير الأعمال الاجتماعية بالوزارة للتدخل من أجل حل المشكل وتوعد بالحل في غضون 15 يوما، لكن تطورت الأوضاع فيما بعد. فبينما يصر الطلبة على الصمود في انتظار الحل الموعود به، كانت الضربة من الخلف بفتح الجبهة الأخرى قضية العصيان والاحتجاز وباقي التهم المنسوبة إلى المعتقلين.
إذن اختصارا، المشكل الحقيقي لا يتمثل مطلقا بين الطلبة والموظفين، بقدر ما هو بين الطلبة والوزارة أو الدولة بشكل عام.
الأخلاق العامة للمناضل وعلاقته بالإدارة
في كل الجامعات المغربية يتمتع الطلبة المناضلون بسمعة طيبة لدى الأعوان وموظفي الإدارة، أقصد الموظفين الإداريين وليس المخبرين الذين تضعهم جهات أخرى لمصالح أخرى وهذا معروف لدى الطلبة ومناضليهم، لذلك نجد أن معظم الطلبة الذين تعترضهم بعض المشاكل الإدارية يلجؤون إلى المناضلين للقيام بالوساطة لدى الإدارة لحل هذه المشاكل.
هذا وإن مناضلي المكون الإسلامي خصوصا يتمتعون بجرعة زائدة من الاحترام من قبل الموظفين، لأنهم ابتداء يعرفون أن الموظف لا حول له ولا قوة، وإنما هو في مكانه يلتمس كسرة خبز لا أكثر.
أما بخصوص الموظفين فوق العادة، وأعني بهم أصحاب الحساسيات السياسية والنفسية وغيرها، فإن قيامهم بوظائفهم لا يقتصر على أداء المهام الإدارية فقط، بل يتعداها إلى مهام أخرى بعضها معروف والبعض الآخر ينكشف بين الحين والآخر. لهذا السبب كنت قد كتبت على شبكات التواصل الاجتماعي دعوة إلى السيد وزير التعليم العالي بالتدخل لكشف الانتماء السياسي والنقابي لهذه الفئة من الإداريين الذين يدعون أنه مورس عليهم احتجاز بهذه الطريقة الدرامية، وإن كان السيد وزير العدل والحريات مدعو اإلى القيام بالعمل نفسه.
تدقيق في التهم
يتابع الطلبة المعتقلون بتهم متفاوتة بين جنح وجنايات، وأهم هذه التهم هي إهانة موظفين عموميين أثناء وبسبب قيامهم بعملهم، واستعمال العنف، والإيذاء في حقهم والعصيان والتهديد، والمشاركة في عصيان وقع أثناءه ضرب وجرح والمشاركة في تجمهر مسلح والانتماء إلى جمعية غير مرخص بها وتهمة احتجاز موظفين عموميين. ومع أني لست فقيها قانونيا ولا خبيرا جنائيا، ارتأيت أمام هذه التهم أن ألفت النظر إلى الوقائع المشابهة التي تحدث بالجامعة بشكل يومي ومستمر من قبيل الرفض الدائم لقرارات الدولة والوزارة الوصية والخروج في تظاهرات ومسيرات لعصيان قرارات يراها الطلبة مجحفة، فلماذا لا تحرك التهم إلا في مناسبات بعينها وفي وجه مكونات طلابية بعينها في ظروف خاصة، إن المنطقي في مثل هذه الحالات أن يتم متابعة كل طالب تتمثل فيه الصفات التالية: الانتماء إلى جماعة العدل والإحسان أو المشاركة في التحركات التي من شأنها عصيان قرارات الدولة أو الوزارة أو الاحتجاج على الإدارة أو أعوانها الذين يتجاهلون خدمة الطلاب، كما أن محاكمة الطلبة بهذه التهم تفرض الاعتقال الفوري لكل قيادات التنظيمات السياسية التي ينتمي إليها هؤلاء الطلاب وتقديمهم للمحاكمة، لاسيما وأن هؤلاء القادة يتحركون ويعبئون ويصرحون ويحضرون المؤتمرات الدولية بصفتهم ناطقين رسميين أو أمناء عامين لهذه التنظيمات غير المرخص لها في نظر الدولة.
خلاصة القول إذن أن الدولة لا حاجة لها بمتابعة القوانين وتطبيقها والضرب على أيدي المخالفين، بقدر ما أن التهم بالنسبة إليها تبقى جاهزة إلى حين الحاجة إليها كما هو الشأن بالنسبة لطلبة الحي الجامعي بفاس.
تصريحات وزير التعليم العالي
عقب الأحداث الطلابية المذكورة بادر السيد الداودي وزير التعليم العالي إلى التوضيح في البرلمان أن وزارته قد عملت على تعميم مذكرة مهمة جدا على كل الإدارات الجامعية، مفادها هو الإسراع في طرد كل طالب يثبت حمله للسلاح الأبيض بالجامعة أو ممارسته للعنف بساحة الجامعة، وقد زاد السيد الوزير أن هذه الظاهرة العالمية – على حد قوله- تتبناها مجموعة من المكونات الطلابية بالجامعة.
في الحقيقة أنا لم أفهم قصد السيد الوزير، أوقل بالأحرى لم أرد أن أفهم لأنني أراه قد أقحم نفسه في متاهة كان بودي أن ينأى بنفسه عنها. ماذا يعني إذن توزيع مذكرة في هذه الظرفية بالذات، هل هي إدانة سابقة لأوانها أو تأكيد على إلصاق تهم العنف بالطلبة أم هي إشارة باحتمال سقوط الشهيد “محمد الفيزازي” بضربات صديقة أو طلابية معادية أم هي مذكرات إعلان حسن نية الوزير أمام الدولة في التصدي للطلاب لحساب الدولة وقراراتها وتهمها ومخططاتها؟
إن السيد الوزير مطالب بالقيام بمسؤولياته أمام الشعب المغربي وذلك بالاعتراف بعجزه عن حماية الجامعة من تدخل قوى الأمن، وعجزه كذلك عن تأمين أرواح وأجساد الطلبة المغاربة والأجانب من التدخلات العشوائية المتجاوزة لكل الأعراف والقوانين والتشريعات الدولية.
الوضع الجامعي الآن بين الاستقرار وشد الحبل
بحكم التاريخ النضالي ومنطق الممارسة النقابية داخل الجامعة، وبالنظر إلى حجم المأساة، وبالتمعن في تداعيات الأحداث، يمكن القول بأن الدولة بقراراتها هذه قد فتحت الباب أمام مرحلة أخرى من اللاسلم، فالتدخلات الأمنية السافرة أصبحت السمة الغالبة على الجامعة وهي حالة في طريقها إلى التوسع، فبعد القنيطرة وبني ملال ووجدة… ها هي مراكش وفاس ظهر المهراز وغيرها من الجامعات تنضاف إلى قافلة الجامعات المشمولة بالتدخل البوليسي غير المحسوب.
ما يعقد الوضع ليس فقط التدخل وإرباك العملية التعليمية، ولكن فاعلية هذه التدخلات. إن الوضع لا يزداد إلا سوء والمكونات الطلابية مصرة على المقاومة لأنها تعتبر ما يحصل تضييقا على حقوقها المشروعة، لذلك على الدولة أن تعي أن الخاسر الأكبر هو الاستقرار الطلابي الذي يرخي بظلاله على المجتمع، على اعتبار أن كل قضايا الجامعة لها صداها بالمجتمع، وأن تجارب التاريخ تقول أن استعمال العنف ضد الطلاب إنما هو وقود لتأجيج الاحتجاج والغضب الطلابي، لذلك فمؤشر الإعلان الرسمي عن دورة بيضاء في جامعة ظهر المهراز قد يكون المغامرة غير المحسوبة إذا أضفنا إليها جملة الاعتقالات والتدخلات والمتابعات.
في اعتقادي أن الظرفية السياسية والشروط الإقليمية والدولية لا تسمح بهذه الممارسات وتدفع الوضع إلى مزيد من شد الحبل، لذا على الدولة التفكير جيدا قبل الدخول في مثل هذه الحسابات التي تدفع في اتجاه تراجع المغرب في مجال الحريات والحقوق والسلم الاجتماعي. كما أن على العقلاء من أبناء الوطن الحيلولة دون التمادي في هذا الخيار ما دامت هناك فرص للحل.
هناك فرصة للحل
على الرغم من حدة الموقف وارتباكه فهناك فرص للحل، مع التأكيد أن الحلول لن تجد طريقها إلى الواقع إلا بإرادات واضحة ومبادرات تشاركية. وبهذا الصدد أود المساهمة بالاقتراحات التالية:
1. إطلاق سراح المعتقلين كتعبير عن حسن نية الدولة في التعامل مع الجامعة، وخصوصا مع المكونات الطلابية المعنية بالاعتقال.
2. تحمل الحكومة مسؤولياتها، وخصوصا وزير العدل، في فتح تحقيق نزيه في ملابسات استشهاد الطالب “محمد الفيزازي” وعدم ترك القضية كشعرة معاوية بين الأطراف.
3. تحمل المكونات الطلابية مسؤولياتها في إطلاق حوار طلابي عاجل وفوري، قد يكون برعاية مجتمعية أو جامعية، من أجل القضايا الطلابية المشتركة.
4. مبادرة السيد وزير التعليم العالي إلى إطلاق الحوار مع ممثلي الحساسيات الطلابية على اختلاف مشاربها دون انتقائية أو تجاهل.
5. تحمل البرلمان لمسؤوليته فيما يحدث داخل الجامعة وإسراعه في تشريع قوانين لحماية الحقوق الأساسية للطلاب، والعمل على رفع مستوى الخدمات المقدمة للطلبة وتحديد لجان تقصي الحقائق بخصوص السكن الجامعي وباقي الخدمات الطلابية المقدمة.
6. ضرورة التفكير الجدي للدولة في إنهاء الإشكالات القانونية المتعلقة بالتنظيمات الطلابية لتسهيل عملية الحوار، وعدم الارتهان إلى التعامل السياسوي مع الجامعة من أجل خلق فضاء طلابي مستقل تسوده روح التعايش والديمقراطية والسلم الاجتماعي.
هذا إن وجدت في الساحة آذان تسمع، وإلا فالواجب يحتم على كل ذي مروءة وعقل أن يرفع الصوت عاليا: إن هناك حقوقا للمواطن المغربي تنتهك، فليتحمل الجميع مسؤولياته.