حسن الظن بالله وبخلقه موضوعاً لمجلس النصيحة المركزية

Cover Image for حسن الظن بالله وبخلقه موضوعاً لمجلس النصيحة المركزية
نشر بتاريخ

الحمد لله والصلاة على من سما قدره عند الله وعلا، وعلى آله وأهله من صحب ومن بهم اقتدى.

انعقد يوم الجمعة 13 شوال 1441ه الموافق لـ 5 يونيو2020م مجلس النصيحة المركزية عن بعد، وذلك في موضوع: “حسن الظن بالله تعالى وبخلقه”، انطلاقاً من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أبو داود رحمه الله تعالى: “حسن الظن من حسن العبادة“.

فرغم انعقاد المجلس عن بعد، انسجاماً مع سياق الحجر الصحي في المنازل، لكن بحمد الله الأرواح انجمعت واجتمعت وإن تباعدت الأشباح، والأرواح جنود مجندة “فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ“[1]، لأن روح المومن لا تحبسها جدران الحس المغلق لتبحث عن الرحيق حيث الرحيق، وفي ما يلي ملخص ما تم تدارسه ببعض التصرف، فجزى الله القائمين والمشرفين وسائر المتدخلين.

فلا غرو أن حسن الظن من أعظم العبادات والقربات فهو عمل قلبي وخلق سني، من اتصف به سمت نفسه عن الدناءات وعزفت نفسه عن الملذات الشهوات.

1- الظن لغة وقرآنا:

فالظن اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جداً لم يتجاوز حد التوهم،”[2]، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: “إنَّ حَقِيقَةَ الظَّنِّ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ فِي النَّفْسِ لِأَحَدِهِمَا تَرْجِيحٌ عَلَى الْآخَرِ. وَالشَّكُّ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِوَائِهِمَا. وَالْعِلْمُ هُوَ حَذْفُ أَحَدِهِمَا وَتَعْيِينُ الْآخَر”[3].

وبالعموم فالظَّن اثنان كما قال قتاد: “ظنٌّ يُنْجِي، وظنٌّ يُرْدِي“[4]،وقد ذكرهما القرآن ترغيبا وترهيبا، فذكر أهل  حسن الظن به وبخلقه تحبيبا، من أصحاب طالوت قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ “(البقرة آية 249) فنصرهم الله وهزموا أعداءهم بحسن ظنهم بمولاهم وإن قل عددهم ومددهم. كما ذكر المخلفين الثلاث الذين “ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” ( التوبة آية 118)،

فما أنجاهم إلا حُسن ظنهم وصدقهم مع مولاهم، وكذلك المومن يوم القيامة ففي الحديث الذي رواه سمرة بن جندب “ورأيت رجلا من أمتي يُرعد كما تُرعد السَعَفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكّن رِعدته”[5].كما ذكر المومنين الذين لم يخوضوا في حديث الإفك فقال “لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ” (النور آية 12)، وفيه تنبيه على أن “حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير ، وأن يقول بناء على ظنه {هذا إفك مبين} هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال ، وهذا من الأدب الحسن “[6].

أما في باب الترغيب فقد ذكر القرآن عواقب سوء الظن فقال في “الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ” (الفتح آية 6)، فكفى به إثما أن تحل بصاحبه سوء العاقبة دنيا وأخرى، ثم قرر القرآن أن سوء الظن مما تبقى من أخلاق الجاهلية الأربع، وهو ظن الجاهلية، فكما أن للجاهلية حكما ظلما واستبدادا، وكما لها تبرجاً عهراً وفساداً، وكما لها حميةً تعصباً وتحزباً وعناداً فلها سوء ظن بالله شكاً وشركاً وجحوداً وإلحاداً. وليس سوء الظن المنهي عنه هو الخواطر التي تنتاب الإنسان، فهي من طبع البشر، فمن ابتلي به “فينجيه من سوء الظَّن أن لا تتكلم به”[7]، لكن سوء الظن المنهي عنه هو الذي يؤدي إلى المس بكرامة الناس بغير حق وعدم احترام المستورين والمتَسَتِّرين منهم، فمن كان رأس ماله سوء الظن بالله وبعباد الله فحَبَّته ما انفتقت لأن الأرضَ قاحلة، قاسية قسوة الصخر، قلب قفر، قلب قبر. وللأسف فهذا حال كثير من الناس على قول ابن القيم “فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحق، ونفسه تشهد عليه لذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنًا كُمُون النار في الزنادِ“[8].

لكن المومن الحق “يحسن الظن بالله عز وجل وبعباده، وذلك خلق الإسلام، عين المحاسبة والمطالبة والمراقبة موجَّهة منه إليه. نفسُه وهواه وطبعُه وشيطانُه وأنانيتُه وعاداتُه وزلاتُه هم خُصَماؤُه أسْبَقَ شيء من دون الناس. ولكافة المسلمين عنده حُرمةٌ”[9]. أما منشؤه فصفاء الصدر وسلامة القلب، فالقلب إن صفا زالت شكوك العبد، والقلب السليم “كما بيَّنَتهُ السنة المطهرة هو قلب المؤمن الذي يحسن الظن بربه، يرجو رحمته ويخاف عذابه، يحبه ويحب رسوله، لا يتجسس على المسلمين، ولا يحسد، ولا يغتاب، ولا ينم. همه الله عز وجل، وجهده منصرف لبناء جماعة الجهاد ودعمها. وبسلامة القلب وصلاحه يتفاضل المؤمنون”[10].

2- أقسام الظن:

ومن اللطائف أن قسّم جار الله الزمخشري[11] الظن إلى “واجب ومندوب وحرام ومباح“، فالواجب: حسن الظن بالله، فعن جابر قال :سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله“[12]. والحرام: سوء الظن به تعالى وبكل من ظاهره العدالة من المسلمين، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم “إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا”[13]‏.

والمندوب: حسن الظن بمن ظاهر العدالة من المسلمين، والجائز: سوء الظن بمن اشتهر بين الناس بمخالطة الريب والمجاهرة بالخبائث، فلا يحرم سوء الظن به، لأنه قد دل على نفسه، ومن ستر على نفسه لم يظن به إلا خير، ومن دخل في مداخل السوء اتهم، ومن هتك نفسه ظننا به السوء. وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفاً من طرق متعددة قوله “من عرّض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به“.

3- ثمار حسن الظن بالله:

  • السعادة في الدارين: قال تعالى: “وما أنزلنا عليك القرآن لتشقى”، فحسن الظن يقوي اليقين في الله وفيما عند الله، والله ما أرسل الرسل وأنزل الكتب إلا لتنظيم علاقة الانسان بربه وبنفسه وبغيره، فلا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله، فإن من عرف ربه استصغر في جنب كرمه ذنبه.
  • التوفيق إلى أحسن الأعمال: فمن مستلزمات حسن الظن بالله العمل الصالح، حيث أُثر عن الحسن البصري أنه قال: “ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل، وإن قومًا خرجوا من الدُّنيا ولا عمل لهم وقالوا: نحن نحسن الظَّنَّ بالله وكَذَبُوا، لو أحسنوا الظَّنّ لأحسنوا العمل”.
  • نيل مفتاح خزائن الله من  الخيرات والمعارف: قال الله تعالى في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء”[14]، وقال الله تعالى: “أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله”[15]، فحسن الظن بالله يفتح أبواب خزائن الله فيأخذ منها ما يشاء.

4- دواء سوء الظن:

“استشفاء القلب، وتطهيره، وتعريضه لنفحات الحرمة الإلهية. القرآن الشفاء. والطمأنينة الذكر. اليقظة من الغفلة والتعلق الدائم بالله عز وجل، وطرح ما سواه في المواضع التي وضع فيها الشرع كل شيء. من كان همه الله، وضابطه الشرع، ومنهاجه الاتباع، لا يحسد ولا يعادي المسلمين ولا يهجر ذوي صحبته وقرابته، ويعفو عمن ظلمه، ويصل من قطعه، ويعطي من حرمه[16].   

  • حمل كلام الناس على أفضل المحامل: فمن حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً“.
  • التماس الأعذار: فعن سعيد بن المسيب قال: وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس ثماني عشرة كلمة حكم كلها قال: “ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به“.
  • عدم الحكم على النيات: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “من علم من أخيه مروءة جميلة فلا يسمعنَّ فيه مقالات الرِّجال، ومن حَسُنت علانيته فنحن لسريرته أرجى“[17].
  • ذكر الله: فهو سقال رين القلوب وسوء الظن يكدر القلوب والشيطان لا يصطاد إلا في الماء العكر.
  • الدعاء: فالدعاء يغير القضاء وينفع مما نزل ومما لم ينزل.
  • معرفة آفات سوء الظن

نسأل الله أن يعلمنا حسن الظن به ونعوذ بالله أن نكون ممن أَرْدَاهُمْ سُوءُ ظَنِّهُمْ بِاللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ“وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (فصلت آية 23).

فلا تظنن بربك ظن سوء

فإن الله أولى بالجميل

ولا تظنن بنفسك قط خيرا

وكيف بظالم جبان جهول

[1] صحيح البخاري، كتب أحاديث الأنبياء، باب: الأرواح جنود مجندة.

[2] الراغب الأصفهانى، مفردات ألفاظ القرآن، دار القلم، دمشق، باب الظاء

[3]  ابن العربي، أحكام القرآن، ج7 ص: 179

[4]  انظر تفسير القرطبي، ج 15/353

[5] السيوطي، جمع الجوامع أو الجامع الكبير، حرف الهمزة

[6] أبو حيان، البحر المحيط،  ج8 ص 305

[7]ابن بطال، شرح صحيح البخاري، ج9/261 

[8] ابن قيم الجوزية زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 27، ج5 ص 229  

[9] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج1 ص: 101

[10] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية و تنظيما وزحفا، ط 2، ج1 ص: 187

[11] الصنعاني، سبل السلام، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، ط 4، ج4 ص 189

[12] صحيح مسلم، الجنة وصفة نعيمها وأهلها،  باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت

[13] صحيح مسلم، البر والصلة والأدب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها

[14] الطبراني المعجم الكبير، مكتبة العلوم والحكم – الموصل، ط 2، من اسمه واثلة

[15] الهيثمي، غاية المقصد فى زوائد المسند، كتاب الجنائز، باب حسن الظن بالله

[16]  عبد السلام ياسين المنهاج النبوي،  ص: 187.

[17] ذكره ابن بطال في شرح صحيح البخاري، ج 9/261.