حين تعاكسك الظروف، ويحاصرك الظالمون، ويمنعك المعتدون، من الطبيعي ألا تتنازل عن حقك الأصيل في مدافعة حركة الباب الذي يغلقونه عليك، وأن تحاول جهدك، وتوظف حيلتك، كي تفتحه، فإن لم تجد إلى ذلك سبيلا، فَلَكَ في فتح النوافذ مسلكا إن تعذّر الباب، ذلك المسلك الذي قد يقنَعُ به البعض مؤقتا أو يألفونه، فيرضونه سقف طموح ومنتهى آمال، باسم الواقعية أو باسم أشياء أخرى.
فإن لم تقنع بذلك، وكنت النجيبَ الصامدَ إلى هدفه، القاصدَ إلى عليائِه، فَلَكَ أن تسعى إلى نقب الجدران وخرقها إن استطعت إلى ذلك سبيلا. وإن تعذّر كل ذلك، فلا مفرّ لك أن تلجأ إلى صعود سطح الدّار، كي تخرج من صندوق الحصار، متمثّلا قول الشاعر: “حاصر حصارَكَ لا مَفَرُّ”.
وأنت، مع اتخاذك أسباب كل هذه الخطوات، مطالَبٌ بفهم غزّاويٍّ للمعركة ما أمكنك، وبحاجة إلى استلهام الدروس من هداية المهديين ما وَسِعَك، وَالذِينَ جَاهَدُوا فينَا لنَهْدِينَّهُم سُبُلَنا.
1- احفر نَفَقَ نفسِك لا تتوانَ!
فاستغلَّ سنوات الحصار في حفر أنفاقٍ تصدُّ عنك غارات العِدا، وتسهّل عليك الحركة، وتخفي عن عين المتربصين حجم قوتك وعُدّتك، وتكون لك ملجأً حين يعلو الباطل ويستأسد، وابدأ بالبحث في الموجود من أنفاق النفس وأهوائها، متتبِّعًا مراتع بُخلِها وجُبنها ونكوصها، وطمعها وشرهها، وسائر شهواتها، ثم عُجْ على أعماق تلك السراديب، لتكشف كِبْرَها وجُحُودَها، وميلَها إلى ادّعاء العصمة، ونزوعها نحو التألُّه، وحبّها للرئاسة والتسلُّط والشُّفوف.
وليس من أدواتٍ للحفر العميق، إلا الكلمة الطّيبة المباركة “لا إله إلا الله”، تحفِرُ بها عميقا، حتى ينبجس الماء، وتتوغّل بها في الكيان والروح بلا هوادة، حتّى ينتشر ترياقها في مكامن الداء وشرايين الأنانية والرياء. تحفر بإصرار وعناد، وتستمطر الفتح بحضور الوِداد، وتلتزم الأدبَ حتى تفيض الأمداد.
وَرَطِّبِ الأرضَ الصَّلْدَةَ بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إن تعسّر الحفر، واختَرْ لتعطيفِ جَنابِ ظِلِّهِ المِكيالَ الأوفى، فإنه الأمضى سرعةً وفعالية، والأوفى أثرا ونورا وبركة، وحينئذ تصير تربة نفسك طيّعة أمام حفرك، سهلة أمام أمرك.
وَلَئِنْ أَنْتَ، شَحَذْتَ آلاتِ حَفْرِكَ بعزم أكيد وهمّة ماضية، فعليك بتشحيمها بعكس مطلوب النفس، بتقليل شهيِّ الطعام والإمساك عن اللغو وهدر الكلام، ثم تزييتِها بزَيْتِ القيام والصيام، فأنت أقرب حينها من قَويمِ الكلام ومَتينِ وَطْءِ الأقدام، إنّ نَاشِئَةَ اللّيْلِ هِيَ أشدُّ وَطْئًا وَأَقوَمُ قِيلًا.
2- أين “ياسينُك”؟
وانظر – رعاكَ الله- أين تجد ياسينَك الذي يردّ عنك صولة الغطرسة الظالمة ويحميك من فوّهات الموت الغاشمة! فكيف ترعى تطويره وتخليصه وتحسن به الرماية، فكل جولة أو صولة تفتقده فيها نوشك أن نَفْقِدَك.
ياسينُ صحبتِكَ، سلاحُ كَرِّك وفرِّك، يصيب لا يخطئ إن تخلَّيت عن جبنك وأنانيتِك، فدنوتَ واقتربت، وسدّدتَ وخلَّصتَ. فاحرص أن تأخذه عن مهرة محترفين، وتصحب الصيّادين الولوعين والقناصين المُجيدين. صحبة في جماعة المُجاهدين المُوفَّقين.
ولا تنس يا عزيزي، العنوان الحصري، والرقم السّري: 105، وتوكّل على الله ابتداءً من يمين العدد، فشمّر كي تحرص على الخمس في المسجد، وفي الصف الأول ما أمكنك، وثبّتِ الرقمَ كي يصلحَ للإضافة إليه من نوافل اجتهادك وطاعتك، ثم جُزْ بعدَ تثبيت الخمس، ومعها، إلى استكمال العشرة، تسبر غورها وتستجمع أطرافَها، إنها عشر خصال، لكنها تجمع فوق السبعين من شعب الخير والبر، ومن صفات الإيمان والفضيلة.
سبع وسبعون شعبة من الإيمان، إن عرّضت لها واديك، بعد كنسه وتطهيره وتعطيره، صار نهرا زاخرا معطاءً، وغدا موردا للريِّ والسِّقاء والحياة، أدعى لجواز الطهارة بجريانه، متجددا بجوده وسخائه.
3- النّفير إلى القرآن
ألا ترى إلى نفير القرآن الذي ملأ من القطاع الأركان، حفظا وتلاوة وتعلُّما وتعليما، أزيزا كأزيز النحل، وتنافسا في تحبيره والتغنّي به، كأنك بإزّاء جنّة لا تفتر فيها مزامير داود عليه السلام، فاقرأ وارق، فإنه بقدر إقبالك عليه يُقبل عليك، نورا وبصيرة، فهما وإرادة، ألم يصلك بَعْدُ أن “القرآن يربّي الإرادة؟”.
فلا تكن بطّالا، تصرف سنوات حصارك مقلّبا نظرك حسرةً في سماء تبسط فيها غربان الشر أجنحة السوء والظلام، بل تطلَّعْ إلى لحظة تشرق فيها شمسُك بنور ربّك، حين تجمع كلمةَ الله بين جنبيك، وتحوز شرفَ الإقبال، فيعمُّك نور التوفيق، وتحفّك ألطاف العناية. ألم تر أنّ القرآن إن شَغَلَكَ عن الدعاء فهو عينه وينوب منابَه؟ فلئن شغلك عمّا قد يشغلك، فهو قضاء لحوائجك كلها، وتيسير لكل سبل الخير، وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ، بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا.
فاحرص على حفظ الروح، كما تحرص على حفظ الحروف، وادرأ كُلَّ ذلك بحفظ الحدود، فإنه أنفع لي ولك. أما إن صار القرآن مشروعا لتجديد دين الأمة، ومنهاجا لبعث عزّتها واستئناف رسالتها، وغدا منبعَ الفكر والأدب والعلم والهدى، فثمة الفهمُ والرشدُ، لا ريب، بارك الله النية والقصد وسدَّد الخطى وأكملَ العطاء.
4- أيَّ حاضنة ألَّفتَ؟
وَهَبْ أَنَّكَ قد وُفِّقتَ لكل ما سبق، ألا تحتاج إلى من يسند ضعفَك، ويأوي تَعَبَك، ويؤنسُ وحشَتَك، ويصدُّ عنك ما لا تطاله يقظتُكَ وسهامُك؟ فمن يا ترى يكون معينك، ويخلفُك في الأسفار وضرب القفار؟! ومن يا ترى يسارع في نجدتك، ويهُبُّ حين سماع صرختك؟!
ومن غَيْرُ إخوتِك غطاءً وسِترا، وجيرَةً وربعا، يتألمون لألمِك، ويفرحون لفرحك، ويواسون ويُطَمْئنون؟ ومن غَيْرُ إخوَتِكَ يجزعون إن طالتك نيران الأعداء والخصوم، ويذودون وينتفضون، ويقفون سدا منيعا، وصدّا رفيعا، كي يدفعوا عنك كل لَأْواء، ويمنعوا عنك كل إيذاء؟
فما حظُّك في تأليف الحاضنة؟ وما إسهامك في تمتين القاعدة؟
تُرتّق بحرصٍ ودأبٍ ما تفتق، وتصلح بأدبٍ ذات البين جُهدَك. تمسح الدمعة، وتبارك الخطوة، و”تعين على نوائب الدّهر”. تُعظّم النيّات، وتثبِّت القنوات، وتُمتِّنُ الصِّلات. تحبِّبُ وتحنو، تعفو وتتجاوز، فإنك بذلك إنما تفتل في حبلك، وتصنع ترسَك الذي يحميك وقت اشتداد الطِّعان.
فأرِني ما به يطمئنُّ قلبي إليك، ويزداد شوقي ويعظُم حُبّي، ولا تقعد في أعالي تلك الصخرة الصّماء، لا تحسن -تمَّ- إلا الانتقادَ، وركوبَ العناد، تعالَ احمل معنا الأثقال، وفكّ معنا الأغلال، تعال، تعال!
5- معركة الإعلام
إن معركة الإعلام من أشرس المعارك وأخطرها، وإن دورها في إظهار الحق ونصرته، وكشف الباطل وتعريته، دور بارز لا ينكره إلا جاحد جاهل. وإن الإعلام، هو الدعوة عينُها، والإعلام الحقُّ هو ما يحمل أعظم الأنباء، وليس أعظمُها إلا خبر الآخرة والمعاد، إن غشي نور الهداية ذاك الفؤاد.
فكيف يمكنك إتقان حرفة الإعلام وهي لغة العصر وعنوانه وآلته الأخطر إن لم تكن على مستوى العصر، تقنية، ومهارات، ولغات؟
وها هي ذي مساحة شاسعة، كي تستغلّ الوقت، وتتقن وتحترف، بفهم شامل عميق، تتقدّم إلى وسائل العصر تلميذا نجيبا، ثم متقنا حاذقا فريدا. وليس معنى لذلك، الإعلام حصرا، بل أن تبذل وسعك وأكثر، كي تحوز كل مهارة تحتاجها في مستقبلك، وتتملّك كل تقنية لا يمكنك الاستغناء عنها في معركتك، وتحسن كل وسيلة ناجعة يتوقّف عليها إحسانُ جهادِك، وتجيد كل لغة أنت بحاجة إلى امتلاكها.
هكذا، لن تجد الوقت الكافي، لتحسَّ بالغَبن، وتذهب نفسك حسرات على ما وضعوا أمامك من عقبات، وما سلّطوه عليك من موانع، وما حاولوا إشغالك به من زوابع، فمطلوبك أمامك: أن تمتلك أدوات عصرك، وتكون فيها الرائدَ الذي لا يُجارى، والمكين الذي لا يستهان به. وإلا، فانزحْ عن تلك المعالي، فليس لك فيها مقام، والسلام.