هذه سلسلة من الحلقات خص بها الدكتور مصطفى حسيني، المفرج عنه بعد عقدين من الاعتقال صحبة إخوة آخرين من جماعة العدل والإحسان، موقع الجماعة للنشر. يحكي فيها عن تجربة السجن المليئة بالعبر والعظات والمنح الربانية وسر الصمود والثبات الذي رافق كل مراحل الاعتقال.
اليوم موعدنا مع الحلقة الأولى:
تعرضنا على يد النظام المغربي المخزني لظلم واعتداء شنيع، أفضى إلى إفناء زهرة شبابنا في أقبية السجون ظلما وعدوانا، قابلناه بتفويض أمرنا إلى الله تعالى، والرضا بقضائه وقدره، محتسبين، صامدين، ثابتين، غير مبدلين ولا مغيرين. وهو أمر يحمل معاني كثيرة، وينطوي على دلالات عديدة، منها ما يتعلق بالمعتقل وجماعة العدل والإحسان ولطف الله وفضله عليهما، ومنها ما يتعلق أيضا ببشاعة الظلم والظالمين؛ ذلك أن المكوث ثمان عشرة سنة داخل الزنزانة هو حرمان من الحياة، وجريمة مخزنية نكراء، ووصمة عار في جبين المخزن والمتآمرين معه، فضلا على أنه يؤكد أن سياسة القمع لن تجدي في تغيير الناس لمبادئهم، خاصة إذا كانت هذه المبادئ تنبع من روح الإسلام ووسطيته ورحمته، بعيدة عن مهاوي العنف ومآسيه.
إن هذا المكتوب الذي عنونته بـ”خواطر على درب الصمود” هو مجرد أفكار ومشاعر لاحت لي، فجرى اليراع مقيدا لها، لكنه عجز عن حصرها، لأن قضاء ما يقارب عقدين من الزمن داخل الزنزانة يحوي الكثير من الوقائع، والدروس، والعبر، التي يتعذر اختزالها في سطور وصفحات معدودة.
وفيما يأتي بعض هذه المشاعر والمعاني والدلالات:
أولا: تجليات فضل الله تعالى ورحمته
ما أجمل لحظات الصفاء والإيمان التي عشناها في خلوتنا وزنازننا في نجوة من صخب الدنيا وفتنها، مناجين ربنا، متضرعين إليه. معاني كثيرة غمرتنا في أقبية السجون، وعشنا في كنفها، تفضل الله بها علينا، وأكرمنا بها رحمة منه سبحانه وإحسانا.
لقد فوضنا أمرنا إلى الله تعالى منذ اللحظة الأولى للاعتقال، واستقبلنا قضاءه وقدره بقلوب راضية مستسلمة. وكان لتوجيهات الإخوة الأحبة في جماعة العدل والإحسان، وبالأخص ما أولاه لنا مرشدها العام الأستاذ الجليل عبد السلام ياسين حفظه الله، من رعاية فائقة، أثرا طيبا في إيقاظ الهمة، وتصحيح الوجهة، إذ لم تكن تخلو رسالة من تحفيز وتوجيه و إلحاح على صدق الطلب، والصفاء، وتزكية النفس، والإقبال على كتاب الله تعالى حفظا وتدبرا وعملا، والحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأخلاقه في عسره وفي يسره. فمما قاله المرشد العام حفظه الله في رسالته المشهورة المنشورة حينئذ في الصحف: لا تنسوا أحبتي أن موكبكم واحد مع شهداء فلسطين وأبطال البوسنة والهرسك والمجاهدين من المؤمنين والمؤمنات في أطراف دار الإسلام. اعكفوا أحبتي على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حفظا وفهما وعملا، واعمروا أوقاتكم بذكر الله، وتحصيل العلم النافع استعدادا لصبح الإسلام القريب بحول الله، وتعرضا لما وعد الله ورسوله الصابرين الصادقين بشرى الحياة الدنيا والآخرة. )وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ. وقال في رسالة أخرى كلاما جامعا للخير نافعا: إنما هي ومضة فإذا نحن في القبور أجسادا وفي البرزخ أرواحا، وعند الله عز وجل في مقعد صدق مطمحا، جعلنا الله وإياكم من الصابرين المجاهدين. المستقبل الزاهر ينتظركم في الدنيا، وما عند الله خير وأبقى وأنقى. الصحبة الصحبة، والذكر الذكر، والتواصي بالحق، وطلب الحق، والسير إلى الحق. )وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.
فالصحبة مفتاح لكل خير، تفتح الأبواب، وتنير الطريق. والمؤمن في اعتقادي لا يكمل إيمانه مهما كان فاضلا صالحا حتى يجمع إلى ذلك صحبة مباركة تأخذ بيده، وتعينه على مجاهدة نفسه، وحملها على الاستقامة.
لقد استجبنا لتوجيهات الحبيب المرشد قدر المستطاع الذي يسمح به المعتقل، فأقبلنا على الله تعالى معتكفين مرابطين، نتلو كتابه ونتدبر آياته، راجين منه عز وجل أن يجعله ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وذهاب غمنا وحزننا، متفكرين في حقارة الدنيا وزوال متاعها، وفي عظم الآخرة ودوامها، وفي عظيم رحمة الله، وعظيم عقابه، متأملين في عطائه ونعمه، راجين الظفر برضاه،… فرأينا تجليات فضله علينا رأي العين رغم ضعفنا، فضلا منه ومنة. رأينا وذقنا أشياء كثيرة ما كنا لنشعر بها ولا لنعيشها لولا فضل الله علينا، ولولا الصحبة المباركة، والابتعاد عن شواغل الدنيا وضجيجها. فللمحن حكم وأسرار، لعل أهمها أنها توقف المبتلى في سبيل الله على باب الله تعالى، وتسوقه إليه سوقا، بل وتجره إليه جرا، وتلبسه لباس العبودية له.
حين تصدق الإرادة و تصفو الهمة، يستيقظ القلب بفضل الله تعالى، فإذا بحقيقة الدنيا تنكشف أمامه، فيحتقرها، فتعظم فيه آخرته ومصيره عند ربه، ثم ما يلبث أن يعرض عن الدنيا والآخرة، ويقبل على خالقه وخالق الدنيا والآخرة. فيفتح له الله تعالى أبواب الأنس والعوض عن الأحباب والمألوف رحمة من عنده، وعطاء بغير حساب.
الجلاد كان يعتقد أننا محبوسون في الزنازن، بينما كنا أحرارا بقلوبنا وأرواحنا، نطير بحثا عن نيل رضا الحق عز وجل، والتقرب إليه. حين يكون المرء موصولا بالله تعالى يستهين بكل إيذاء وعذاب، ويستعلي على الدنيا وشهواتها.
فجزى الله عنا خير الجزاء كل من وجهنا وأرشدنا وأنار لنا الطريق، فالطريق إلى الله تعالى يتربص به الشيطان من كل جانب، وهو بدون صحبة منيرة محفوف بالمكاره والمنزلقات والمخاطر. وجزى الله عنا خيرا الحبيب المرشد. وحيى الله كل من اهتم بشأننا من أبناء أمتنا في كل بلاد الدنيا، وكل من دعا لنا بظهر الغيب.
ثانيا: عناية الله ولطفه
السجون في بلادنا هي أقرب إلى القبور منه إلى المؤسسات الإصلاحية: اعتداءات بالجملة، وابتزاز، وظلم، واكتظاظ، وتفشي الأمراض في صفوف السجناء، وتدهور أوضاعهم الصحية والنفسية، وتعاطيهم للمخدرات، وغيرها من الأحوال السيئة التي وقفنا عليها بأنفسنا بعيدا عن كل مزايدة أو مجاملة. وقد شاء الله تعالى أن نعيش في هذا الوسط سنوات طوال، وبالأخص في سجن القنيطرة قبل أن نعزل عن سجناء الحق العام كليا في سجن فاس، فحفظنا الله من كل أذى وسوء، بل كان لوجودنا أثرا طيبا في نفوس السجناء المغلوبين على أمرهم، نوجههم لما فيه خيرهم، وندافع عن حقوقهم، ونمنع عنهم الأذى كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا، باعتبار أن هذا السجين رغم ما قد يكون ارتكبه من أخطاء، فهو ضحية للسياسة المخزنية الفاسدة، التي فقرت الإنسان المغربي، وجعلته عرضة للسرقة والتسول، وحرمته من الوظيفة التربوية العظيمة للمسجد، وغيرها من الجرائم.
ورغم ما تعرضنا له مرات عديدة من تعسف، وإهمال، وحرمان، فإننا عشنا في طمأنينة تامة، أنزل الله علينا سكينته، فلم نشعر بمرور الزمن الذي كان يطوى طيا، ولم نشغل بالنا بضغوط السجن، ولا باستفزازات الإدارة واعتداءاتها، إلا ما كان يقتضي منا نضالا واحتجاجا اضطررنا إليه للدفاع عن مطالبنا الإنسانية المشروعة البسيطة.
مرت ثمان عشرة سنة على وجودنا وراء القضبان دون أن تفتر عزائمنا، ولا أن يضعف صبرنا، ولا أن تتأثر معنوياتنا، بل تحدينا الصعاب، واقتحمنا الأبواب، وأقبلنا على كتاب الله حفظا وتدبرا، واجتهدنا حتى نلنا أعلى الشهادات، وجاهدنا أنفسنا لنطهرها بما ألفته من الصغائر والخطايا، وبما علق بها من الدنايا، فكنا ولله الحمد نعيش في مجمع أخوي فاضل. وهذا لطف من الله تعالى من به علينا، وسنة من سننه التي لا تتبدل، تلوناها في كتابه العزيز، وقرأناها في قصص الأنبياء، وسير السلف والصالحين. ولعل قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام لخير مخبر عن لطف الله تعالى وآياته في خلقه، إذ قال الله تعالى للنار حين ألقي فيها سيدنا إبراهيم ليعذب ويحرق كوني عليه بردا وسلاما، فكانت كما شاء الله تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ. أرادوا بسيدنا إبراهيم عليه السلام كيدا، فكادهم الله ونجاه من النار، وانقلبوا مغلوبين خاسرين. فلله الحمد على أن حمانا ولطف بنا ورعانا وكفانا، ونسأله سبحانه أن يديم علينا نعمه، ويزيدنا أمناً وعافية وإيماناً.