تعرضنا على يد النظام المغربي المخزني لظلم واعتداء شنيع، أفضى إلى إفناء زهرة شبابنا في أقبية السجون ظلما وعدوانا، قابلناه بتفويض أمرنا إلى الله تعالى، والرضا بقضائه وقدره، محتسبين، صامدين، ثابتين، غير مبدلين ولا مغيرين. وهو أمر يحمل معاني كثيرة، وينطوي على دلالات عديدة، منها ما يتعلق بالمعتقل وجماعة العدل والإحسان ولطف الله وفضله عليهما، ومنها ما يتعلق أيضا ببشاعة الظلم والظالمين؛ ذلك أن المكوث ثمان عشرة سنة داخل الزنزانة هو حرمان من الحياة، وجريمة مخزنية نكراء، ووصمة عار في جبين المخزن والمتآمرين معه، فضلا على أنه يؤكد أن سياسة القمع لن تجدي في تغيير الناس لمبادئهم، خاصة إذا كانت هذه المبادئ تنبع من روح الإسلام ووسطيتة ورحمته، بعيدة عن مهاوي العنف ومآسيه.
إن هذا المكتوب الذي عنونته بـ”خواطر على درب الصمود” هو مجرد أفكار ومشاعر لاحت لي، فجرى اليراع مقيدا لها، لكنه عجز عن حصرها، لأن قضاء ما يقارب عقدين من الزمن داخل الزنزانة يحوي الكثير من الوقائع، والدروس، والعبر، التي يتعذر اختزالها في سطور وصفحات معدودة.
وفيما يأتي بعض هذه المشاعر والمعاني والدلالات:
ثالثا: الأخوة في أسمى معانيها
الأخوة في الله منة ربانية، وإلفة رحمانية يتكرم بها الله تعالى على عباده المؤمنين المتحابين فيه، ويؤلف بها بين قلوبهم، وصفها الله تعالى في كتابه الحكيم فقال: هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وقد لمسنا معاني هذه الوشيجة الربانية، والأواصر الأخوية فيما بيننا في هذه المحنة، حيث أسسنا بفضل الله تعالى مجمعا أخويا عشنا فيه كل معالم الأخوة الصادقة التي كانت تتغذى وتتقوى بحب الله، والإقبال عليه، والامتثال لأوامره، والاقتداء بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التي تحث على تمتين روابط الأخوة، ووشائج الحب في الله. وكان لإرشادات الأخ المرشد دورا هاما في مسيرتنا. قال أحسن الله إليه: أقبلوا أحبتي على ربكم عز وجل، تحابوا بينكم وتواسوا وتواصوا بالحق والصبر، لا تتنافروا، ولا يحسب أحد منكم أنه يرضي الله سبحانه بغير شرح صدره بالمحبة الصادقة لإخوانه).
لقد كان واقعنا ينطق بكثير من علامات ومعاني الأخوة الإيمانية، أذكر منها:
ـ المحبة في الله:
المحبة في الله عز وجل هي أوثق عرى الإيمان كما جاء في الحديث الشريف: “إِنَّ أَوْثق عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِى اللَّهِ وَتُبْغِضَ فِى اللَّهِ”. والمتحابون في الله هم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. والأحاديث التي تدل على فضل المحبة وقيمتها كثيرة ومشهورة، ومشروع العدل والإحسان برمته يقوم أساسا على الحب في الله ولله، ومن هذا المنطلق جعلنا الحب والمودة والصفاء أساس اجتماعنا، ومبنى سلوكنا، فالقلوب متى امتلأت بوشائج الحب في الله تعالى، فاضت بكل فضيلة وخير على من حولها. وهذا ما اقتضى من الواحد منا مواساة أخيه، والتأثر بمصابه، والتفاعل معه، ومشاركته همومه ومشاكله الخاصة والأسرية، واستوجب منا التهادي، والإكرام، وطلاقة الوجه، وخفة الظل، وعذب الكلام. فما أصعب أن تلقى أخاك بوجه معبس داخل السجن، فذلك قد يزيد كآبة السجن ظلمة وقساوة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ. فنفسية المعتقل بالأخص تميل وترتاح إلى كل ما يدخل السرور ويشرح الصدر، وتنفر من كل ما يحمل اكفهرارا وحزنا وغلظة. وغيرها من الأفعال التي تقوي أواصر الأخوة والمحبة.
ـ الإيثار والخدمة:
تنمو الأخوة في ذلك المجتمع السجني الصغير بحسن الإيثار، والكرم، والتواضع و الصدق، والتفاني في خدمة الآخرين، مصداقا لقوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وامتثالا لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.” 1
ـ الاحترام والتقدير:
وقد تجلى ذلك في الحرص على احترام كل منا لشخصية الآخر، وكذا إبداعاته، ومميزاته. وكان كل واحد منا يسعى جاهدا ألا ينتهك حرمة إخوته لما في ذلك من خطر يخل بالإقبال على الله، ويعود على الأخوة والمحبة بالضرر البين، وفق ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: “المُسْلِمُ أخُ المُسْلِم، لاَ يَخُونُهُ، وَلاَ يَكْذِبُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِم حَرَامٌ: عِرْضُهُ، وَمَالهُ، وَدَمُهُ، التَّقْوى هاهُنَا، بحَسْب امْرىءٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخَاهُ المُسْلِم” 2 . و غيرها من الأخلاق الكريمة، ومظاهر الأخوة والوفاء.
ـ التناصح والتواصي بالحق:
أوجب علينا ديننا أن نتناصح، ونتواصى بالحق، ونتعاون على الخير. ولهذا كان لزاما علينا تماشيا مع مبادئنا أن نتواصى فيما بيننا بالخير، والصبر، وحسن الخلق، ونتعاون على البر والتقوى، ونستفيد من الوقت فيما ينفعنا حال اجتماعنا، ونمنع أنفسنا من ظلم غيرنا، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: “انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ”.
لقد اتسم الإخوة المعتقلون بأخلاق فاضلة عالية، حتى أضحى جل الحراس يحترموننا، رغم ما كنا نتعرض له من تعسف على أيدي بعضهم من حين لآخر.
وذكر فضائل رفقائي في المحنة، وثنائي على مجتمعنا الأخوي المصغر الذي عشنا فيه خلال فترة الاعتقال لم يكن مبالغا فيه، بقدر ما امتثلت فيه لقوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ. وهذا لا يعني أننا كنا ملائكة أطهارا، بل نحن بشر نخطئ، وقد تتعثر خطانا، وتزل ألسنتنا، وما يجوز على الناس من نقص وخطأ وضعف يجوز علينا أيضا، وذلك من فطرة البشرية فينا، وجل سبحانه من لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ. فأنى لنا ونحن بشر ضعفاء من عصمة من الأخطاء والذنوب، وقد أمرنا الله تعالى أن نتوب إلى الله جميعا، لأننا جميعا نخطئ ونصيب، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
ثمان عشرة سنة من المعاشرة اليومية غمرتها روح الصفاء، والأخوة الصادقة، والتضحية والإيثار، وإقبال على الله آناء الليل و النهار، فأنزل الله سكينته ورحمته، فلله الحمد على ما أعطى ووفق ويسر وأعان.
رابعا: العدل والإحسان جسد قوي واحد
طيلة فترة اعتقالنا وكل المنتسبين للجماعة والمتعاطفين معها يدعون لنا بظهر الغيب، ويسهرون على قضاء حوائجنا قدر استطاعتهم، وتخط لنا أياديهم أجمل العبارات، وأروعها، ويخصوننا بدعم معنوي في أحلى صوره. وشرفنا الله تعالى بأن حضينا بعناية المرشد العام للجماعة حفظه الله منذ الوهلة الأولى للاعتقال، يثبت ويرشد ويشجع، وكذا من مجلس الإرشاد، ومختلف مؤسسات الجماعة. وتجند الإخوة الطلبة والطالبات لمدنا بكل ما نحتاجه من كتب ومقررات. كما لم يبخل علينا أطر الجماعة وعلماؤها، والكثير من العلماء الأفاضل بتجاربهم العلمية، وتوجيهاتهم النيرة، وجزى الله الجميع خير الجزاء. وكل هذا ليس خلال أسابيع، أو أشهر، أو سنوات معدودة، وإنما طيلة ثمانية عشر عاما. أو ليست هذه صورة رائعة لجسد أخوي صادق قوي؟ أولا ينطبق على هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” 3
خامسا: ابتلاؤنا ضريبة تدفعها العدل والإحسان نيابة عن الأمة
تعرضت جماعة العدل والإحسان لحصار شديد، وأذى متعدد الألوان والأشكال من قبل النظام المخزني وسدنته. وكانت البداية مع المرشد العام للجماعة سنة 1975 على إثر نصيحته الشهيرة للملك الراحل، غفر الله لنا وله، المعنونة بالإسلام أو الطوفان، ثم توالت الاعتقالات والتضييق والتعسف، إذ تكاد لا تخلو سنة من اعتداءات ومحاكمات، إلى أن حان موعد اعتقالنا سنة 1991، ثم توالت بعدها اعتقالات ولا تزال، حتى أضحى سجل المخزن يتضمن لائحة بأسماء الآلاف من رجال ونساء وأطفال الجماعة الذين زاروا زنازنه أو مخافره. فاعتقالنا بدون وجه حق، وإصرار المخزن على إبقائنا داخل السجن طيلة هذه المدة، هو جزء لا يتجزأ من سياسة الدولة الرهيبة لحصار الجماعة، والحد من أنشطتها، والتأثير على المتعاطفين معها، واستنزاف طاقتها، الخ. وفي المقابل فإن هذه التضحيات من لدن رجال الجماعة ونسائها ومعتقليها، هي بمثابة ضريبة تدفعها العدل والإحسان نيابة عن الأمة، لتتحرر وتعيش، في يوم ما نخاله قريبا، في عز وكرامة، وعدل وحرية.