من يدقق في الموقف الأميركي مع احتدام حرب العدوان على لبنان، ومن قبله ومعه، حرب العدوان على قطاع غزة ونابلس وجنين ورام الله يكشف الدوافع الحقيقية لهذه الحرب.
فإدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش تصرفت منذ اليوم الأول الذي انطلقت فيه الطائرات الإسرائيلية لتضرب في لبنان، باعتبارها شريكا مع الحكومة الإسرائيلية متماهيا فيها إلى حد يجعلهما واحدا.
ومن يستمع إلى المندوب الأميركي جون بولتون في هيئة الأمم المتحدة يجده أكثر إسرائيلية من المندوب الإسرائيلي نفسه في مجلس الأمن.
فقرار الحرب الراهنة في قطاع غزة وفي لبنان هو بالتأكيد قرار إسرائيلي/أميركي، والممارسة العملية الإسرائيلية متفق عليها مع الإدارة الأميركية، وهي مغطاة من قبلها.
ولم يظهر حتى الآن تحفظ أميركي واحد على اتجاهات القصف بما في ذلك تلك التي تعرضت للجيش اللبناني، العنوان الأول للدولة، أو التي ضربت قوافل الدواء.
بل الأغرب أن البوارج الأميركية التي حملت أميركيين من بيروت إلى لارنكا (قبرص) سمحت للبحرية الإسرائيلية أن تصعد إليها في عرض البحر لتفتش هويات ركابها.
هذا وتتكشف كل أبعاد قرار حرب العدوان المزدوج على فلسطين ولبنان حين تعلن كوندوليزا رايس أن الشرق الأوسط مقبل على تغيير جذري نتيجة لتلك الحرب، وأن من غير المسموح به أن يعود الوضع في المنطقة إلى ما كان عليه قبلها.
وأكد الرئيس الأميركي هذا الهدف وقرر إرسال كوندوليزا رايس في ظل استمرار القصف والتهديد بالتصعيد والتوسيع، لوضع أسس هذا التغيير، قبل أن يفكر بوقف إطلاق النار لأن وقف إطلاق النار من وجهة النظر الأميركية مرتبط بتحقيق ذلك الهدف.
وهذا يعني أن القول إن عمليتي “الوهم المتبدد” و”الوعد الصادق” وأسر الجنود الثلاثة هما سبب اندلاع تلك الحرب كان خداعا من جانب أميركا وإسرائيل، وكان إما سذاجة مشحونة بالوهم وحسن النية بالمقاصد الأميركية/الإسرائيلية، وإما هروبا من تحمل مسؤولية مناصرة الشعبين المعتدى عليهما.
هذه الحرب لم تنطلق نتيجة ردة فعل لعمل “مغامر” أو استفزازي، ولا حتى انتقامي، أو استعادة لهيبة الجيش التي هزت هزا، وإنما كانت معدة، أو مطبوخة، قرارا واستعدادا، بانتظار اللحظة المناسبة من أجل تحقيق هدف إقامة نظام “الشرق الأوسط الجديد”، بما يتعدى حدود فلسطين ولبنان، وسوريا وإيران، كما يفهم من تصريحات كوندوليزا رايس، فهي الحرب التي تتخذ تغيير الشرق الأوسط كله هدفا إستراتيجيا لها.
بالطبع الهدف الإستراتيجي المذكور يجب أن يجزأ، ويوضع على مراحل، وينتقل خطوة خطوة، ضغوطا أو حربا، من بلد إلى الآخر، أي من العراق إلى فلسطين إلى لبنان، إلى إيران، مرورا بسوريا ثم بقية الدول العربية.
المواقف الأميركية الصريحة بتعطيل أي قرار لوقف إطلاق النار قبل أن تحقق حرب العدوان هدفها، ثم ربط وقف إطلاق النار لا بنزع سلاح حزب الله فقط، بل باعتبار ذلك جزءا من تغيير خريطة الشرق الأوسط الجديد، وربطه بذلك الهدف مباشرة.
ويلحظ هنا تصريح جورج دبليو بوش الذي قال فيه إن نزع سلاح حزب الله من شأنه إضعاف الموقف الإيراني وجعله أكثر تقبلا للتخلي عن برنامجه النووي.
هذا التصريح الأخير يكشف من الذي حمل أجندة إقليمية في الصراع الذي دخل مرحلة إعلان الحرب من جانب إسرائيل، هل هي حماس وحزب الله أم الإستراتيجية الأميركية/الإسرائيلية؟
وتتأكد هذه الحقيقة من خلال الضغط الأميركي على سوريا لتغير مواقفها وسياستها حتى تصبح من بين الدول “الساعية إلى الاستقرار” في المنطقة، أي الدخول في المشروع الأميركي/الإسرائيلي للشرق الأوسط الكبير.
فالحرب من وجهة النظر الأميركية تستهدف تغيير السياسة السورية لإدراجها في مشروع الشرق الأوسط الكبير عموما، وفي عملية إضعاف الموقف الإيراني راهنا. وهذا الإضعاف يراد له أن يكون عسكريا إن لم يؤت ثماره سياسيا.
ومن هنا تأتي التصريحات الأميركية مع احتدام حرب العدوان على لبنان، لتنسف نهائيا كل الأوهام والمقولات والادعاءات التي فسرت إعلان الحرب على فلسطين ولبنان بأسر الجنود الثلاثة، أو اتهام عمليتي “الوهم المتبدد” و”الوعد الصادق” بأنهما تنفذان أجندة سورية/إيرانية.
على أن الوضع حتى اليوم الرابع عشر من بداية الحرب على لبنان أو على الأصح “حرب الشرق الأوسط الجديد” قد اتسم بالتطورات الرئيسية التالية إلى جانب ما تقدم من كشف للأهداف الأميركية/الإسرائيلية الحقيقية في هذا العدوان المزدوج:
فمن الجهة العسكرية لم يُنجز القصف الجوي الإسرائيلي غير هدم الجسور وتقطيع الطرقات وتهديد تنقل السيارات والشاحنات في لبنان كله، وغير تهديم البيوت السكنية في الضاحية الجنوبية من بيروت وفي عدد من القرى والمدن الجنوبية، مما أسفر عن ضحايا من المدنيين زادوا على أربعمائة شهيد وأكثر من ألف جريح، فضلا عن مئات الألوف من المهجرين والحبل على الجرار إلى أن توقف الحرب. وبكلم هذه المرحلة كانت بمعظمها حربا على لبنان كله وليس على حزب الله فقط.
أما على مستوى مواقع إطلاق صواريخ حزب الله أو قيادته وكوادره ومقاتليه فقد تبين، كما كشف السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله أن الجيش الإسرائيلي في عماء شبه كامل، ولم ينجز ما يمكن أن يعتد به.
فإمكانات إطلاق الصواريخ لم تتأثر حتى الآن، والأهم أن وجود القوات المقاتلة على الخطوط الأمامية للجبهة حوفظ عليه، وفاجأ محاولات الاختراق البري حيث أوقع قتلى وجرحى بالسرايا المهاجمة وبدباباتها (ما بين ثلاث وعشر دبابات).
هذا فضلا عن إثبات قدرة حزب الله وجماهيره على الصمود، ثم استيعابه للهجوم، ثم انتقاله للمبادرة وإنجازه بعض المفاجآت.
هذا ما أكده لقاء السيد حسن نصر الله مع قناة الجزيرة في 20/7/2006 كما تصريحاته اللاحقة، ويؤكده الواقع على الأرض، الأمر الذي يعتبر من الناحية العسكرية والحرب النفسية فشلا حتى الآن للخطة الإسرائيلية.
وهذا ما قد يفرض على قيادة العمليات العسكرية الإسرائيلية (والأميركية) اتخاذ قرار الاجتياح البري وتحقيق مكاسب على الأرض اللبنانية أو التوسع في القصف واستهداف المدنيين اللبنانيين أكثر فأكثر مما قد يصعّد من مستوى الرد الصاروخي لحزب الله.
بل إن تحرك كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية باتجاه المنطقة يعبر عن محاولات تحقيق مكاسب سياسية من دول المنطقة لا يستحقها العدوان ومستوى “إنجازاته” على الأرض.
ومن ثم فهي زيارة مكللة بالفشل، وإن جرّت إلى جانبها قوى عربية أو دولية خائفة من نتائج فشل العدوان..
وهذا الفشل سيكون فشلا مزدوجا في لبنان وفلسطين، خصوصا إذا فشلت مبادرة إطلاق الأسير الإسرائيلي في قطاع غزة، خاصة أنها مبادرة تعتمد على وعود فلسطينية ومصرية مستندة إلى وعود من جانب رئيس “الشاباك”.
وتلك الوعود سوف تكرر ما حدث في اتفاق “جنين/المهد” الذي أجهض انتصارا فلسطينيا استنادا إلى وعود إسرائيلية وأميركية لم تحقق غير سحب لجنة التحقيق الدولية التي كانت -لو استمرت- ستعرض قادة عسكريين إسرائيليين، بمن فيهم موفاز قائد الجيش، في حينه 2002، إلى تهمة ارتكاب جرائم حرب.
ولهذا فإن الصبر في فلسطين ولبنان، فيما مؤشرات فشل العدوان تلوح في الأفق، ومن ثم رفض الاعتماد على وعود زائفة ومخادعة، يشكل شرطا في إفشال العدوان بعد أن استنفد كل ما عنده أو يمكنه استخدامه في الميدان العسكري.
الأزمة التي يواجهها العدوان الإسرائيلي/الأميركي في فلسطين ولبنان لا تقتصر على صمود الشعبين ومقاومتهما فحسب، وإنما راحت تمتد أيضا على مستوى ردود الأفعال الشعبية العربية والإسلامية والرأي العام العالمي، وفي مقدمته الرأي العام الأوروبي، وإلى حد أقل الأميركي.
إن الصمود الشعبي والقدرة على البقاء ومواصلة المقاومة من جهة، والولوغ في دماء المدنيين والتوسع في التدمير إسرائيليا من جهة ثانية، يشكلان مع الوقت (بعد مضي أسبوعين مثلا) عاملين هامين في إثارة الرأي العام والإنسان العادي عربيا وإسلاميا وعالميا.
وهو أمر لا يستطيع المخطط الاستراتيجي في أية دولة ألا يحسب حسابه مهما تظاهر بإدارة الظهر له، أو نكران وجوده، لأن الغضب هنا يدب دبيبا خفيض الصوت بادئ الأمر ليصبح خطرا هادرا في ما بعد وعلى المديين المتوسط والبعيد كذلك.
هذا ما يفسر ما أخذ يحدث، وسيحدث من تغيير في المواقف الرسمية العربية والإسلامية مع أواخر الأسبوع الثاني للحرب من دون أن تحقق أهدافها العسكرية والسياسية.
والأهم سرعة تفكك الإجماع الدولي الذي بدأ في بطرسبيرغ من قبل مجموعة الدول الثماني، فإيطاليا وإسبانيا أصبحتا تطالبان بوقف فوري لإطلاق النار، وكذلك الصين.
أما فرنسا فقد دخلت في تناقض مع الموقف الأميركي حول استمرار الحرب بعد اقترابها من الأسبوع الثالث وبعد أن ألحقت دمارا بالبنى التحتية واستفحلت في قتل المدنيين والاعتداء على الجيش أي على الدولة اللبنانية.
لكن فرنسا لا تريد أن تسحب القدم الثانية التي تحافظ على سياسة التوافق مع أميركا، مما جعل دعوتها لهدنة إنسانية فورية مترددة وقد هبط بها إلى مستوى فتح خط آمن بين قبرص ولبنان لإيصال المساعدات الإنسانية.
صحيح أن الموقف الفرنسي ابتعد نسبيا عن الموقف الأميركي إلا أنه يؤشر إلى انحدار الموقف الأميركي نحو العزلة. وقد أثبت مؤتمر روما -بالرغم من فشله نتيجة الضغط الأميركي في إعلان وقف فوري لإطلاق النار- أن الموقف الأميركي معزول وشاذ في تماهيه بالموقف الإسرائيلي.
وهذا يجب أن ينظر إليه على أنه في غير مصلحة العدوان عكس ما كان عليه في قمة مجموعة الثماني في بطرسبيرغ، لاسيما حين يتراكم فوق ما أشير إليه من تغيير في مواقف عدد من الدول باتجاه الضغط من أجل وقف إطلاق النار بلا شروط لتبدأ العملية السياسية بعد ذلك، مما يعني فشل العدوان.
وبدهي أن التقدير الدقيق للموقف يتطلب ملاحظة اتجاه تطور الأحداث حتى لو كان بطيئا، كميا وجزئيا لاسيما حين يتم التغيير في ظل حرب مستعرة.
هذا التقدير للموقف أساسي في إدارة الصراع، والصمود من جانب القيادات المعنية فلسطينيا ولبنانيا وعربيا في ظروف اختلال ميزان القوى العسكري، لأن كسب المعركة في ظل هذا الاختلال يتطلب أن تحسب أدق المتغيرات واتجاهها العام من أجل كسب المعركة ضد العدوان الإسرائيلي/ الأميركي، ومن ثم توقع فشله.من هنا يمكن القول إن المشكل من العدوان من الناحية العسكرية فلسطينيا ولبنانيا أصبح مسألة وقت لفرض التراجع عليه، ما دامت جبهته الدولية آخذة بالتصدع، وما دام الموقف الجماهيري العربي والإسلامي والعالم الثالثي كالرأي العام الغربي متجها إلى شجبه واستنكاره، وأيضا إلى التعبير عن الغضب الشديد.
وذلك ما سيزعج مؤيدي إسرائيل في الغرب، مما سيزيد الضغوط على الرأي العام الإسرائيلي الداخلي والقيادات الإسرائيلية.
بيد أن المشكل الخطر الذي يواجه الخروج بنصر ضد العدوان في فلسطين ولبنان يتمثل فلسطينيا في مشروع تسليم الجندي الإسرائيلي الأسير مقابل وعود جوفاء تجهض ذلك النصر (حتى لو كان جزئيا) وينقذ العدوان من الفشل، ويقدم له مكاسب مجانية.
أما المشكل الخطير لبنانيا فيتمثل في مشروع ربط وقف إطلاق النار بإرسال قوات دولية إلى الجنوب، لأن ذلك سينقذ العدوان من الفشل ويقدم له مكاسب مجانية، وينقل الصراع إلى الداخل اللبناني.
على أن نقطة الضعف الداخلية التي تسمح لهذين المشكلين بأن يهددا الوضع كله آتية من ضعف مواقف بعض الدول العربية المؤثرة فلسطينيا ولبنانيا وضعف مواقف بعض القوى الفلسطينية واللبنانية إزاء ضغوطها. والخطر يتسع حين يسارع هؤلاء إلى دعم المشروعين المذكورين على حساب ما تحقق من صمود وقدم من تضحيات.
ومن ثم فإن المطلوب من الجميع هو فرض وقف إطلاق النار بلا قيد ولا شرط، مع ترك الجنود الأسرى للتبادل على “نار هادئة”. وهذه حاجة فلسطينية من الدرجة الأولى لأن لديها حوالي عشرة آلاف سجين. ومن ثم لكل حادث حديث.