دروس من زمن الثورة (1)

Cover Image for دروس من زمن الثورة (1)
نشر بتاريخ

كثيرة هي الدروس التي قد تستخلص وتستلهم من هذه الموجة من الثورات التي تجتاح الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. والحديث بتفصيل عن عناوين هذه الدروس وعبرها وخلاصاتها وانعكاساتها يبدو سابقا لأوانه.

بلا شك الجيل القادم من أبناء هذه المنطقة ومن أبناء العالم بأسره، سيكون على موعد آخر من تاريخ البشرية يصنعه اليوم شباب الثورة بالضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط.

ذلك الجيل سيلقن بالتأكيد كل تفاصيل دروس هذه الثورات، وسيمعن في قراءة لحظاتها بخلفياتها وصيروراتها ونتائجها وآثارها وانعكاساتها، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. على السلوك الفردي والجماعي، وعلى الإلهام العلمي والإبداع الفني في الأدب، نثرا وشعرا وكتابة مسرح وسينما، وفي الرسم والأغنية والموسيقى. لأن الثورات في كل زمان ومكان لا تلد وتُبرز قيادات جديدة في عالم السياسية فقط، بل أيضا علماء ومفكرون وأدباء وفنانون، ألهمتهم لحظات الثورة قوة استشعار آلام وآمال وتطلعات الشعوب الثائرة، فراحوا يعبرون عنها ويخلصون لها بكل ما أوتوه في ميادين تخصصهم من اجتهاد وتفاني وإبداع وإتقان عكسوا وترجموا معاني وغايات الثورة..

في هذا الاستلهام العاجل كما هي الأحداث والتطورات بالمنطقة والعالم على عجل، ألتقط جملة دروس تبدو لي بمثابة المنارات الكبرى والعالية التي أنارت وستنير دروب هذه الثورات، لما لها من رمزية ودلالة غيرت الكثير من المسلمات وأعطت بعضها مزيدا من الزخم للثورة، غذت جذوتها بكثير من الحماسة والإصرار والثبات، وكشفت عن أسرار وحكم ما كنا لندركها لولا هذه الثورات، وتنبئ الأخرى بدنو عصر جديد ليس على المنطقة وشعوبها فحسب، وإنما على العالم كله الذي يتابع هذه الثورات ويراقب ويفهم ويصحح نظرته ويقتنع.. وسرعان ما ستهوي أفئدة الأحرار فيه إلى معانقة كل جميل وكل كريم وكل فاضل وكل إنساني من مبادئ وشعارات زمن هذه الثورة، لينافح عنها ويدعو إلى إقرارها.. ولِمَ لا غدا في معاهدات وأوفاق دولية؟

سلمية.. سلمية

هذا هو الشعار الذي حمله الشباب الصانع لمستقبله في كل المنطقة العربية وبشمال إفريقيا، وهذا هو الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه على التو ومنذ الوهلة الأولى لانطلاق هذه المسيرة من الثورات بتونس ومصر ثم باقي البلدان..

هذا المظهر السلمي والهادئ الذي عبرت عنه كل الجماهير بدون استثناء، لا يسعنا أمامه إلا الانحناء إكبارا وإجلالا لهذه الإرادة في التغيير السلمي والإصرار على حفظ أمن وسلامة ودماء الناس.

لقد شد هذا الشكل السلمي للثورات بمختلف البلدان، أنظار العالم في شماله وجنوبه، وغير تلك النظرة والصورة النمطية التي انطبعت في ذاكرة الغرب خاصة، والتي تتلخص في كون شعوب منطقتنا خاملة وجبانة، أعطت الدنية من نفسها ومكنت حفنة من الطغاة عديمي المسؤولية والضمير من التحكم في مصائرها وفي ثرواتها ومقدراتها، وأنها إذا قامت إلى التغيير فإنها لن تفعل ذلك بالضرورة إلا بالعنف والفوضى.

الشعب المصري الذي اعتصم بميدان التحرير في القاهرة وفي غيرها من المحافظات لمدة 18 يوما، قدم للعالم الذي كان حاضرا بإعلامه بهذه الميادين، مشاهد رائعة وغاية في الإبداع، عبر من خلالها عن سلمية ثورته بالدرجة الأولى. وكم كان الشعب المصري مصرا برجاله ونساءه، بشبابه وشيوخه، وحتى أطفاله.. كم كان مصرا وملحا ومتمسكا بأن لا ينفلت من يده هذا المظهر السلمي لتحركه، فقد تحمل الكثير من أجل تثبيت وتأكيد اختياره السلمي، تحمل الشهادة والجروح والاعتقال والإهانة، تحمل أكثر مما يمكن أن نتصور، لكنه استرخص كل ذلك، ليس فقط من أجل نجاح وانتصار ثورته، لكن أساسا من أجل أن تظل هذه الثورة حاملة للواء السلم والرفق والحلم. حتى وهم يودعون شهداءهم كانوا حليمين، حتى وهم يداوون جرحاهم ظل الرفق لباسهم، والحمد والشكر خطابهم ودعاءهم.

هذه المشاهد أبهرت الكثير ممن عايشوها عن قرب، لحظة بلحظة، من الصحافيين والصحافيات الغربيين، وأثرت فيهم بالغ التأثير، وغيرت اقتناعاتهم وأعادت تشكيل تلك الصورة التي طالما رسخت في أذهانهم عن شعوب المنطقة بأنها عنيفة وفوضوية، وأن مجتمعاتها هي منبع لكل أصناف الحقد والإرهاب، وخطر محدق بالإنسانية، يهدد أمنها ويعد بالزوال نمط الغرب في الحياة.

عقدت ندوات، وألقيت محاضرات كثيرة هنا وهناك منذ عقود محاولة جهدها إثبات بأن العنف والإرهاب ليسا خاصيتين ملازمتين لشعوبنا. لكن الإعلام كان يصم سمعه ويغمض عينه عن هذه الحقيقة.

فجاءت هذه الثورات لتعطي الدليل وتقدم البرهان على أن خصال الرفق والسلم والنظام والنقاء والمسؤولية هي الأصل في شعوبنا، وأن ما وصفنا به من فوضى وعنف استثناء ألجئ إليه بعض المغررين بهم من أبناءنا على غفلة وتقصير منا، تحت مختلف الذرائع والضغوط في الداخل ومن الخارج.

نفس هذه المشاهد الناصعة قدمها وعبر عنها بأبهى ما يكون التعبير الشعب اليمني المعروف لدى العام والخاص في الداخل والخارج بأنه شعب مسلح حتى التخمة. لكنه شعب سعيد كما أن يمنه سعيد، فقد استلهم بنجاح كبير درس ثورتي تونس ومصر، وعلم أن سبيل انتصار ثورته هو نفسه السبيل الذي سلكه الشعبين التونسي والمصري، فألقى عن كتفه رشاشه وبندقيته، ونزل إلى الشارع والى ميادين التحرير أعزل إلا من إرادة التغيير السلمي، لتتلقفه الآلة القمعية لنظام علي صالح بالقمع والاعتقال والقتل لمحاولة إثارته واستفزازه ودفعه إلى التقهقر والعودة إلى حمل السلاح والوقوع في اقتتال داخلي يفسد ثورته وان نجحت في إسقاط النظام.

ثورة سلمية ترددت شعارا في كل ميادين التحرير بالشرق الأوسط وبشمال إفريقيا. شعار قلب تلك القاعدة الذهبية التي كانت تقول: ما أخذ بقوة لا ينتزع إلا بقوة. أسقطت الشعوب الثائرة اليوم مفهوم وأسلوب العنف الثوري الماركسي الذي طالما ألهم وما يزال الكثيرين، وظنوا أنه المأخذ والمذهب الوحيد لاسترداد واسترجاع الحقوق وتحقيق الثورات. فصارت القاعدة على العكس تقول بأن ما أخذ بقوة وعنف يمكن بالتأكيد استرجاعه وانتزاعه، لكن بقوة الرفق وبقوة الإرادة وبقوة الإصرار على البلوغ بالثورة سلميا إلى مداها، بقوة الحكمة وقوة الصبر والمصابرة، وبقوة الحلم وقوة الثبات والمثابرة..

يبقى أن أشير إلى استثناء واحد لحد الساعة في سجل هذه الثورات خاصة بمنطقتنا بشمال إفريقا، وهو استثناء الثورة الليبية. إن ما لجأ إليه الشعب الليبي الحر الأبي من حمل السلاح، كان فعلا استثناء وحكم الضرورة ألجأ الثوار الليبيين إلى الرد على طغيان القذافي بقوة السلاح، دفاعا عن دماء أبناء الشعب وأعراضهم.

الليبيون يدركون حقيقة القذافي، ويدركون ما قد يصنعه بهم.. وقد شهد العالم وسمع بما توعد به الشعب الأعزل بل ومنطقة حوض المتوسط كلها من دمار وقتل، وأعلن بأنه سيحول ليبيا والمنطقة إلى حمام دم.

وهذه رسالة أوجهها إلى من يفتون تعليقا على عموم هذه الثورات، وعلى الثورة الليبية بالتحديد، جهلا بالدين وليا لمقتضيات ومدلولات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، بأن القاتل والمقتول في النار. فيجعلون جند القذافي الذين طغوا وافسدوا في البلاد في نفس مكانة ومنزلة الثوار من شباب ورجال ليبيا الذين قاموا ليدافعوا عن أنفسهم وأعراضهم ووطنهم. وهم يحملون وصية من نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم مكتوب فيها: “من مات دون أرضه فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد” رواه الترمذي

إلى هؤلاء الفتانين المثبطين العاجزين أوجه هذه الرسالة وأسأل: بالله عليكم ماذا فعلت إيمان العبيدي وغيرها كثيرات وكثيرات، حتى تختطف ويهتك عرضها بوحشية من طرف أشباه رجال نفوسهم مريضة. هل حملت سلاحا؟ أم إنه في عرفكم وفقهكم القاعد العاجز، عليها أن تصبر وتحتسب وتقعد في بيتها، ويقعد أبوها حِلْسَ بيته، ويقعد أخوها وعمها وخالها وجارها في منازلهم وهم يتابعون فصول ومشاهد اغتصاب حرائرهم، ولا يخرجون يقفون عند مداخل حاراتهم وفي شوارعهم لحماية أهليهم وأعراضهم مخافة إن قُتلوا أو قَتلوا أن يكونوا في حكم فتواكم العاجزة المقيتة في النار؟

الشعب الأعزل الذي احتمى ببيوته ولم يخرج للمواجهة، شاهد العالم عبر الفضائيات كيف عامله القذافي وبما قابله وألقى به إليه، عصابات ومجرمون ومرتزقة اقتحموا عليه المنازل وأثخنوا فيه قتلا وهتكا لأعراض الشريفات العفيفات على مرأى ومسمع من أهاليهن، وما صرخة إيمان العبيدي إلا فلتة من جحيم ما يصنعه جند القذافي بأهل ليبيا.

أتجعلون المجرمين كالمسلمين؟ أم إنكم تجعلون الشرفاء المصلين الراكعين الساجدين كالفاسدين المفسدين في الأرض؟ ما لكم كيف تحكمون؟