وكأن الدماء الطاهرة تنسج خيوطا من نور، وتجدل حبالا من حرير، وتنسق فيما بينها باقات من ورود، وحدائق غناء من ياسمين ورياحين، وتتلاقى مع الفجر المتلألئ على موعد مع النور المنبلج والصباح الألق، وكأنهم على موعد مع بعضهم إلى لقاء يجمعهم، كيعاسيب نحل تتلاقى على زهرات فواحة، أو كفراشات زاهيات تتراقص في حياتنا، أو كنجوم زاهرات توصوص في سمائنا، وتهدينا إذا تهنا أو ضللنا، فهم الثلة المؤمنة، والجماعة الطاهرة، بقية الشهداء وأثر الأسرى، الذين يزينون تاريخنا، ويرصعون أيامنا، ويرفعون ذروة سنام مقاومتنا، الذين كان لهم فضل ذكرنا، وسبب احترامنا، فقدمونا بين الأمم، ورفعوا من مقامنا بين الشعوب، وجعلوا منا مضرب المثل وعنوان التقليد والتأسي.
أولئك هم ذوو الأسرى وأهل الشهداء من شعبنا، الذين قدموا فلذات أكبادهم وزهرات عمرهم، صغارا وكبارا وشبانا ورجالا، قربانا في سبيل الله من أجل الوطن، الذي لم يبخلوا عليه ولم يتأخروا عنه، بل كانوا في سبيله كراما، وأمام نداءاته سراعا، يتنافسون ويتسابقون، ويقترعون ويستهمون، أيهم يكون الأول والأسبق، والأقوى والأجرأ، والأشد مراسا والأكثر للعدو إيلاما، والأثخن في جراحه والأبلغ في معاناته، ولم يثنهم عن الواجب خوف من أسر واعتقال، أو قلق من قتل وشهادة، ولم يثبط من عزمهم إرهاب عدو أو تخذيل متآمر، ولم يمنعهم عن الإقدام جبن خائف، أو عجز ضعيف، أو تردد متشكك محتار، فيقينهم في الله عز وجل كان كبيرا، راسخا في قلوبهم كالجبال لا يتزعزع، وثابتا في صدورهم لا يتزحزح.
هؤلاء المكلومون الجرحى، والثكالى الحزنى، والمتألمون من أهل الأسرى، وذوو الشهداء الأسنى، رغم ألم الفقد وجوى البعد والنوى، وقسوة السجن والحرمان، هو أول الملبين للنداء، وأسرعهم أداء للواجب، وأكثرهم متابعة للأحداث والمناسبات، وأقربهم للمسرة في الأفراح، وأكثرهم حنوا ودفئا في الملمات والأحزان، وأبعدهم عن الأذى والظلم، فهم يعرفون ألم بعضهم، ويحسون بشكوى أمثالهم، ويسمعون أنينهم، ويصغون السمع لحزنهم، ويعرفون كيف يخففون الألم عن المفجوعين، ويواسون الباكين والموجوعين، ويمسحون دمعة الأطفال المحرومين، ويربتون على ظهور الصغار الباكين، ويكفكفون آهة الكبار المفجوعين، ويحتوون من هدّه الألم وكسر ظهره الحدث، فهم قد سبق لهم أن مروا في هذه المرحلة، وعانوا من هذه المحنة، واكتووا بنار النكبة والمصيبة، ولكنهم وجدوا إلى جانبهم من صبرهم وواساهم، وداوى بالطيب جراحاتهم، حتى تجاوزوا معهم المحنة صابرين على ما أصابهم، وراضين على ما ابتلاهم به ربهم.
ربما كان ذوو الأسرى وأهل الشهداء أكثر الناس إحساسا بالألم، وشعورا بالمعاناة، وأصدقهم في الفرح، وأسبقهم في العزاء، لذا فإنهم يسرعون قبل غيرهم لتقديم الواجب، وأداء الحق، ولا يتأخرون إذا سمعوا عن حادث، أو علموا بفرح، وكأنهم يريدون لغيرهم أن يعرف أن مصابهم لم يعجزهم، وأن ألمهم لم يقعدهم، بل إن الأمل في نفوسهم ينمو ويكبر، واليقين في قلوبهم يزداد ويعمر، وقد خاب من راهن على ضعفهم، أو قامر على استسلامهم، وظن أن الجرح الغائر في قلوبهم سيطوي أملهم، وسيفني عمرهم، وسيزوي حياتهم، وأنهم لن يكونوا في الحياة فاعلين، ولا بين الناس مقبولين.
يذكرنا ما يقوم به ذوو الأسرى وأهل الشهداء، من مبادرات اجتماعية في الأفراح والأتراح، والمسرات والملمات، فيتضامنون فيما بينهم، ويواسون غيرهم، بما كانت تقوم به أم جبر وشاح، وهي المرأة الفلسطينية الغزية، التي أطلق عليها الأسرى والمعتقلون لقب “أم الأسرى” لما كانت تقوم به من واجب تجاه الأسرى العرب والفلسطينيين الذين لا يجدون من يزورهم، ولا يجدون من يعنى بهم من أهلهم، كونهم من عناصر الدوريات العرب الذين اعتقلوا، أو من الفلسطينيين اللاجئين خارج وطنهم، فلا يستطيع ذووهم زيارتهم أو الاهتمام بهم بحكم قوانين سلطات الاحتلال الإسرائيلية.
فقد دأبت أم جبر وشاح التي تغمدها الله بواسع رحمته، على زيارة من لا أهل لهم، ولا عوائل لديهم في فلسطين المحتلة، فكانت تزور الأسير سمير قنطار في سجنه، وتوده وتحبه، وتجلب له ما يريد من طعام وكساء، وتتابع أخباره وقصصه، وتهتم بشؤونه وحاجاته، حتى منّ الله عليه بالحرية، فخرج ضمن صفقات التبادل، فبقي حافظا لودها، وذاكرا لفضلها، ويعدها من بعد والدته أما له، يبرها ويكرمها، ويتصل بها ويدعو لها.
وكذا كان الحال مع الأسير المحرر جبر عمار، الذي كان يجد من ذوي الأسرى والمعتقلين كل رعاية واهتمام، يزورونه كأبنائهم، ويهتمون به كأولادهم، ولا يبخلون عليه بمالهم وخير ما عندهم، ويسألون عنه إذا مرض، ويقلقون عليه إذا تعب، حتى أكرمه الله بالحرية، وخرج من سجنه فذكر فضل من كانوا يقومون بزيارته ورعايته وهم ليسوا أهله ولا من عائلته، وإنما هم بعض من شعروا بألمه وأحزنتهم غربته.
ذوو الأسرى وأهل الشهداء لا ينغلقون على أنفسهم، ولا ينطوون على ذواتهم، ولا يقصرون العلاقات فيما بينهم، وكأنهم رابطة أسرى واتحاد شهداء، وإنما هم مع غيرهم كما هم مع أنفسهم لا فرق.
كأن بين ذوي الأسرى وأهل الشهداء قرابة ونسبا، وعلاقات ووشائج من الصعب أن تنقطع أو تزول، أو تتلاشى وتذوب، وكأن دم أبنائهم المهراق قد صهرهم وجمعهم، وصبغ حياتهم بلون يميزهم، وأضفى على نفوسهم عبقا يعرفهم، أو كأن القيود والأغلال التي يتسربل بها أبناؤهم قد وحدتهم وقربتهم بعضهم من بعض، فباتوا كأنهم عائلة واحدة وأسرة كبيرة، يتضامنون فيما بينهم، ويبادرون تجاه غيرهم من عامة الناس وغير ذوي الأسرى والشهداء، الأمر الذي يجعلهم بيننا محل فخر، وفينا موضع زهو واعتزاز.