زيارة الرضى بصحبة أخي رضا

Cover Image for زيارة الرضى بصحبة أخي رضا
نشر بتاريخ

كلما أقبل شهر دجنبر، وحلت ذكرى وفاة الإمام المرشد، إلا ألفيتني أبحث في مذكرتي عن ما بقي عالقا بها من تفاصيل تلك اللقاءات الربانية المباركة، التي أكرمني العزيز الوهاب بشرف حضورها، وكان هذا اللقاء الذي أحدثكم عنه، واحدا من تلك العشرات من اللقاءات، التي أرجو من الله أن يوفقني للكتابة عنها.

أظنه كان صيف 2002، وكنت يومها طالبا في سلك دبلوم الدراسات العليا المعمقة في العاصمة العلمية فاس، وكنت حريصا يومها على اقتناص بعض الفرص واستغلال بعض المناسبات، التي كانت تغيب عن كثير من المنتسبين لجماعة العدل و الإحسان.

كنت مثلا أخصص يوم ثاني عيد الفطر أو عيد الأضحى، لزيارة الإمام في بيته العامر، حيث آلاف الإخوة يفدون على الإمام لزيارته ومباركة العيد له، وكنت أخصص في هذه المناسبات أيضا، وقتا لزيارة الإخوة الاثني عشر، المعتقلين يومها بالسجن المركزي بالقنيطرة، كانت تلك سُنة جارية، ربما كنا -بعضَ الإخوة- نحرص عليها كل الحرص.

أما في ذلك الصيف فقد علمت من أخ عزيز وصديق مقرب، أن الإمام المرشد رحمه الله يخصص شهر غشت لاستقبال الإخوة الذين يقصدون المغرب من الخارج، ويكون منهم بعض الأجانب من العرب، وحتى كثير من الأجانب الذين شرفهم الله بالإسلام، وأكرمهم بالانتماء لمدرسة العدل والإحسان.

كنت أرجو أن أنعم بصحبة أخي رضا في هذه الزيارة، وهو المقيم يومها بفرنسا، فكم كنت أنتظر قدومه، وربما انتظرته الشهر أو الشهرين، وكنت أعتبر زيارته لمدينتي ومسقط رأسي، مدينة الشرفاء، وزان فتحا عظيما.

حتى إذا قدم، قصدت بيت والديه أتردد عليه، حتى لا ينفلت مني، وأنا على يقين أنه سيحظى بزيارة خاصة، وكنت أعرف علاقته الخاصة بالأستاذ عبد الكريم العلمي عضو مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان، بل كنت أدرك حقيقة العلاقة القلبية بينهما.

وأترجى في دواخل نفسي قائلا: “ياليت أخي رضا يأذن لي بمرافقته لهذه الزيارة الخاصة”. ولم أقو على أن أُسِر له بأمنيتي هاته، لكنه كان لبيبا يقرأ ما يجول في خاطري.

ولا شغل لي بعد أن يتناهى إلي خبر وصوله المدينة، سوى معرفة موعد زيارة الأحد التي سيجعلها الإمام رحمه الله من نصيب جنوب فرنسا وبلجيكا وهولندا، أما صاحبي رضا فإنه لا محالة سيجود عليَّ، وهو الكريم، بمرافقته وإن كنت لست من المهاجرين القادمين من الديار الأوروبية.

هذه المرة، ربما قدم صاحبي رضا من فرنسا وقصده الأول -كغيره من بعض الإخوة- هو الفوز بهذه الزيارة المباركة الميمونة، وقد سألت صاحبي للاستبيان، فكان جوابه أن بعضا من الأحبة قصد المغرب فقط لينعم بهذه الجلسة الخاصة في حضرة الإمام.

وأخيرا، أذن لي بالصحبة في هذا السفر فكدت أطير من الفرح، وكأني بالصِّدِّيق يطرب ويرقص من الفرح، عندما أذن له بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة، وقد جاء في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «إنَّه قد أُذن لي في الخروج والهجرة». قالت عائشة: فقال أبو بكر رضي الله عنه: الصُّحبة يا رسول الله! قال: «الصُّحبة». قالت: فوالله ما شعرت قطُّ قبل ذلك اليوم: أنَّ أحداً يبكي من الفرح، حتَّى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ 1.

وأنا من شدة الفرح، نسيت أنه يجب عليَّ أن أخلد للنوم، فالحافلة التي ستقلني لمدينة سلا تنطلق على الساعة السابعة صباحا. لقد قضيت ليلي أتفسح وأجول بين تلك الخواطر، حول الزيارة التي طالما حلمت بها، أسترجع اللحظة شريط الذكريات، وكيف كنت حريصا على زيارة الإمام عدة مرات، لكن المخزن كان له رأي آخر، فما يزيد عن العشر سنوات من الحصار والتضييق على هذا العالم الرباني، صاحب الرسالة الشهيرة إلى الملك الراحل “الحسن الثاني”، الموسومة بـ”الإسلام أو الطوفان”، هذا الكتاب الذي قرأته في طبعته الحجرية، وأنا يومها دون السادسة عشرة من عمري، وهو أول ما قرأت في بداية انتسابي لجماعة العدل والإحسان، ومازلت أذكر تلك المقدمة التي بدأ بها الإمام رحمه الله: “إلى المولى الحسن بن محمد بن يوسف، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيا ما كان جوابك يا حبيبي يا حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم… فها أنت سيدي حفيد النبي ترى أن أدائي للنصيحة قيام بفريضة فرضها الله على علماء هذه الأمة وعامتهم.. إنك يا حفيد النبي.. إنك يا حبيبي يا حفيد رسول تؤمن بالله واليوم الآخر.. وأنت يا أخي يا حفيد النبي..”.

من خلال هذا الكتاب تعرفت على سيدي الإمام، فارتبطت به ارتباط الابن البار بأبيه، فلا تكاد فرصة تسنح إلا وألفيتني حريصا كل الحرص على الاستفادة منها.

كانت بدايتي في ذلك البيت الصغير في بنائه ومساحته وعدد حجراته، لكنه الفسيح في عظيم معناه ونفعه، بيت قريب من ضريح المولى عبد الله الشريف، عند سفح مضجع هذا القطب الرباني مؤسس مدينة وزان، في حي الحدادين، قريب من ورشات الحدادة التقليدية، حيث رائحة النار وأصوات المطارق والسندان.

وفي حضرة الحبيب أخي محمد الحرش، بدأ حب الإمام ينمو ويبرعم ويزهر في قلب طري مقبل يبحث عن الحقيقة، كنت أواظب على مجالس الخميس، تلك الليالي المحمدية التربوية المفعمة بالمحبة والتصافي، مع تلك القلوب المنجمعة على ربها.

مازالت تلك اللحظات تسكن شغاف قلبي وجوارحي ووجداني، كنت أرجو ألا تنتهي تلك الموائد المبسوطة، التي من خلالها كنت أرشف من معين صحبة رجل حيّ، قلب رجل قلبه معلق بالله، فيزيد شوقي لمجالسته في الحقيقة، بعدما اكتحلت عيني برؤيته في صور بعض الجرائد والمجلات، وحتى بعض الأشرطة السمعية والمصورة التي كانت تصلنا بين الفينة والأخرى.

رجعت بعد شرود… فالساعة تقترب من السابعة صباحا، موعد الانطلاق من مدينتي والمسافة ليست بالبعيدة، يبددها الشوق لزيارة الإمام المرشد رحمه الله، كنت صحبة أخي رضا من السابقين الذين وصلوا حي السلام. وقفت قريبا من مسجد بنسعيد، أرفع نظري وأتأمل تلك الصومعة، ومعها أتملى بمنظر هذا المسجد الذي بني على هضبة ليفصل هذا الحي الراقي الذي يقطنه علية القوم، عن الحي القصديري.

هذا المسجد الذي كان يخطب فيه الإمام عبد السلام ياسين ويلقي فيه دروسه، قبل أن يضرب عليه الحصار ويفرض عليه المخزن الإقامة الجبرية.

كنت اعتدت على زيارة هذا المكان، وكنت كلما اقتربت منه، شعرت بإحساس غريب بقي يلازمني إلى يومنا هذا.

دخلت البيت العامر وجلست قرب المنصة حيث لم يكن بيني وبين الإمام أحد، وقد اخترت المكان بعناية، خاصة أني كنت من السابقين للحضور.

بدأت الوفود تتقاطر بالعشرات، حتى أصبح البيت ممتلئا عن آخره، تجاوز العدد المائتين، هكذا يبدو لي، بدأت أتأمل بعض الوجوه التي أجزم أنها من غير العرب.

اقترب مني أحد الإخوة بين يدي اللقاء وحضور الإمام، يحدثني باللغة الفرنسية، لما ظهر له من لون شعري الأشقر وعيناي الزرقاوين، فهمت أنه يستفسرني إن كنت أحتاج لمترجم، لأنه المسكين يظن أني فرنسي أو بلجيكي، أو هكذا يخيل إليه.

خرج علينا الإمام كالبدر يتلألأ نورا، مبتسما كعادته، بلباسه الأبيض الناصع، كأنه من عالم آخر، يسلم علينا ويوزِّع نظراته الحانية، كما يصنع الأب الحنون مع أبنائه وأهله بعد عودته من سفر بعيد.

يكاد القلب يطير فرحا والفؤاد يرجف طربا لرؤيته، عم المكان صمت رهيب وكأن فوق رؤوسنا الطير، لم يكسر هذا الصمت إلا طلبه لأحد الأحبة أن يفتتح لنا هذا المجلس بآيات بينات من الذكر الحكيم.

ويختار هذا الأخ القارئ الثمن الأول من سورة الفتح تاليا بعد الاستعاذة: باسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ﴿1﴾ لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ﴿2﴾ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِيزًا ﴿3﴾ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِيمَٰنٗا مَّعَ إِيمَٰنِهِمۡۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ﴿4﴾.

وامتزجت معاني هذه الآيات البينات مع مشاعر المحبة والأخوة والصحبة والمجالسة والتزاور والتصافي، فطفقت أشعر بالسكينة والطمأنينة، وكأني بهذه الآيات تتلى أول مرة، ولست أدري كيف هو شعور باقي إخواني؟

افتتح المجلس، وكعادته قدم ضيفيه: فالأول عن يمينه سيدي محمد العلوي السليماني رحمه الله تعالى، والثاني عن يساره سيدي محمد العبادي الأمين العام لجماعة العدل والإحسان حاليا، ثم بدأ بسؤال، ونحن نرفع أيدينا على استحياء، كأننا في فصل دراسي في حضرة مدرس محبوب ناجح.

من منكم يعرف هذا الرجل؟ ويشير إلى الأول عن يمينه ثم بعدها يسأل عن الرجل الثاني.

ويأبى الإمام رحمه الله إلا أن يتوجه بما يشبه السؤال لصاحبه سيدي محمد العلوي: هلا أخبرت هؤلاء الفتية عن بداية دعوة جماعة العدل والإحسان؟

وتهيأنا لسماع الإجابة، لكنه اقتصر فقط على تكرار كلمات متقطعة: هذا الرجل… هذا الرجل… هذا الرجل… وبدأ يبكي وتعالى منه النحيب كطفل رضيع يبحث عن أمه.

هذا رجل كان له فضل علينا، كان له فضل على هذه الجماعة… وبدأ يعدد أفضال الإمام المرشد عليه، ومن خلاله علينا في زمن الفتنة، وفي زمن لا تجد فيه من يدلك على الله ولا من يختارك لنفسك لا له، ليخرجك من عبودية هواك إلى سلوك طريق التقرب إلى الله عز وجل.

لقد عشت اليوم هذا الحدث بتفاصيله ولم يكن يخطر لي على بال، أذكر أني في مرحلتي الثانوية، عندما كنت أعتاد المكتبة البلدية المجاورة يومها لمؤسستي “ابن زهر”، بجانب البلدية أبحث عن كتب أجد فيها متعة ومنفعة، بعدما أعيتني مطالعة روايات نجيب محفوظ، وبعض من كتب عميد الأدب طه حسين، وقع في يدي كتاب من الكتب الصفراء المعنون بـ”الإبريز” لصاحبه عبد العزيز الدباغ، والكتاب من الحجم الكبير فيه سيرة ذاتية لتجربة المؤلف الصوفية، وضمن هذا الكتاب تلك التفاصيل التربوية التي عاشها، وتلك التجربة التي غرف من معينها الفياض، حيث الكرامات والأحوال.

قلت ليس هذا قصدي من هذا الاستطراد، الحديث عن هذا الكتاب، وإن كنت في الحقيقة استمتعت بقراءته، وربما فرغت منه في أقل من أسبوع، لما فيه من التشويق والخوارق، كما لا أشجع على قراءته، هي مرحلة عمرية قضيتها في البحث عن الحقيقة وقد أكرمني الله والجماعة التي انتسبت إليها بكتاب “الإحسان” للإمام المرشد “عبد السلام ياسين رحمه الله”.

كان يجلس عن يميني رجل شديد بياض البشرة، متوسط القامة، لحيته خفيفه شقراء كلون شعره، لون عينيه بين الزرقة والخضرة، وقد عرفت فيما بعد أنه أجنبي من بلجيكا واسمه (ماثيو)، قيل لي بعدها أنه يكثر من الذكر.

سأله الأخ كما سألني هل يحتاج إلى مترجم، فنفى هو الآخر كما نفيت، وقد استغربت لموقفه، فأنا أفقه ما يقال في المجلس، أما هذا الرجل الأعجمي فلا يفقه في العربية إلا لِمَامًا، كإلقاء التحية والسلام والشكر.

ثم عرفت أنه كان يحرص على تلقي تلك الأجواء بعيدا عن الترجمة التي قد تفسد عليه بعض الوُجْدِ أو تحجب عنه بعض الأحوال، فألفيتني مشغولا بتركيزه الشديد على المنصة وكان الذي أمامه مباشرة الأستاذ محمد عبادي، كنت أرقبه من طرف خفي، يركز عينيه في عين هذا الرجل المنحذر من شرق المغرب، وكأني أعيش تلك اللحظات التي يحياها (ماثيو) في حواره العجيب، حوار القلوب عبر العيون، وتمنيت لو أعرف ما يدور في خلجات هذا الأجنبي من مشاعر وأحاسيس، لكنني قلت: هي أرزاق ربما يصيب منها جاري في المجلس “ماثيو” حتى وإن كان غير مدرك لعبارات الحوار اللطيف مع الإمام المرشد رحمه الله.

زرت بلجيكا هذه السنة، وكنت على عجل، قضيت فيها ليلة واحدة، ولو كان لي متسع من الوقت، لسألت عن ماثيو، ولزرته وتفقدت أحواله، رغم أنه مر على هذا اللقاء ما يقارب الربع قرن.

رحم الله الإمام رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وحفظ الصحبة في الجماعة، والصحبة والجماعة والصحبة مع الجماعة، كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا.


[1] سيرة ابن هشام، ج2، ص128-129.