من تمام المن الإلهي والكرم الرباني أن شرف سبحانه هذه الأمة بسيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وخصها بخير كتبه، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، يسر لنا تلاوة القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار، ومكننا من حمله في صدورنا، وبين لنا معانيه المبهرة، وآياته المعجزة. سبحانه له الحمد والمنة.
فما إن تستوقفنا آية فنسبح ونهلل حتى تسحرنا أخرى، كيف لا وهو كلام رب العالمين لَّا يَاتِيهِ اِ۬لْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖۖ (فصلت: 42).
عندما نقف وقفة صدق مع النفس فنسائلها، ونتمعن في حالها ومآلها؛ فإن أخوف ما يخيفنا المستقبل الأخروي وكيف ستختم حياتنا، هنا نستحضر الآية التي يقول فيها الحق سبحانه: وَلَوْلَآ أَن ثَبَّتْنَٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـٔاٗ قَلِيلاًۖ (الإسراء: 74) فنتساءل كيف يمن المولى الكريم سبحانه على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالثبات وهو خير العابدين؟ فيكون الجواب على لسان ابن عباس رضي الله عنه: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما، ولكنه تخويف لأمته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه» تفسير القرطبي.
فالآية تخاطبنا نحن، فهي وإن كان لها سبب نزول متعدد الروايات، فإن العبرة كما يقول سادتنا العلماء بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومن بين الروايات التي وردت كسبب لنزول هذه الآية ما ذكره الإمام السيوطي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد تعال فاستلم آلهتنا وندخل معك في دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم، فرقّ لهم فأنزل الله تعالى: وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اِ۬لذِےٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُۥۖ وَإِذاٗ لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلاٗۖ (الإسراء: 73)، ثم قال له بعد ذلك: وَلَوْلَآ أَن ثَبَّتْنَٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـٔاٗ قَلِيلاًۖ (الإسراء: 74).
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قرآنا يمشي على الأرض، والعناية الإلهية تشمله في حركاته وسكناته، فهو حبيب الرحمن وصفي الديان لا ينطق عن الهوى. لكن المقصود بالخطاب هم نحن؛ فما هو حالنا؟ وما السبيل إلى الثبات حتى الممات، والفتنة تمور حولنا مورا، وأعداء الله يمكرون بالليل والنهار ليبعدوا المسلمين عن دينهم ومبادئهم؟
هنا تظهر جليا الأسرار العجيبة لهذه الآية الكريمة، فإن مولانا سبحانه وتعالى بين لنا أن لا قدرة لأحد على الثبات إن لم يلذ بالله وحده، فهو وحده سبحانه القادر على تثبيت الأقدام من الزلل؛ إذ هو الركن الركين الذي يجب الاحتماء به من الفتن، وكل من ادعى الكمال والاستغناء عن الله فقد ضل وخسر.
ولعلمه سبحانه بخطورة العقبات التي تحول بين الإنسان وبين الثبات على الاستقامة، فإنه سبحانه خص هذه الأمة بسورة ما أنزل مثلها من قبل قط ألا وهي سورة الفاتحة، وجعلها سبحانه ركنا أساسيا في الصلاة ليخاطب بها العبد ربه سبع عشرة مرة على الأقل في اليوم، يناجي ربه بأفضل الكلام وأحسنه، إذ هي مقسومة بين العبد وربه، يدعوه بالهداية إلى الصراط المستقيم. وحري بمن تدبر معانيها أثناء الصلاة واستحضر قلبه وهو يتلوها أن يكون في كنف الله وعنايته. فمن كان الله معه فمن عليه؟ والهداية بيده وحده، قال تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اُ۬للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ مَا زَكَيٰ مِنكُم مِّنَ اَحَدٍ اَبَداٗ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ يُزَكِّے مَنْ يَّشَآءُۖ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞۖ (النور: 21).
وقد قص علينا سبحانه في القرآن الكريم قصص من زلت أقدامهم وخسروا الدنيا والآخرة، حتى لا يعتد أحد بعبادته ولا بعلمه، ولا ينظر إلى الذين لم تكتب لهم الهداية بعد بعين الازدراء والاحتقار، فلا حول لأحد على الثبات ولا قوة له إلا بالله وحده. فهذا بلعم بن باعوراء الذي كان عابدا نحريرا مستجاب الدعوة وعنده الاسم الأعظم، زلت قدمه فآثر الدنيا على الآخرة ودعا على سيدنا موسى عليه السلام، فسلب منه كل شيء، وشبهه الله تعالى بالكلب؛ قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَ۬لذِےٓ ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ اُ۬لشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ اَ۬لْغَاوِينَۖ (الأعراف: 175). كما بين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام أثر العجب والاعتداد بالنفس على هلاك الإنسان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فذكروا قوته في الجهاد، واجتهاده في العبادة، ثم إن الرجل طلع عليهم، فقالوا: يا رسول الله هذا الرجل الذي كنا نذكر، قال: والذي نفسي بيده إني لأرى في وجهه سفعة من الشيطان. ثم أقبل فسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل حدثت نفسك حين أشرفت علينا أنه ليس في القوم أحد خير منك قال: نعم…». فإن ثمة أمراض في القلوب لا يطلع عليها إلا الله وحده قد تكون سببا في الانحراف والميل عن الصراط المستقيم، فتزل القدم ولا يستطيع الإنسان الثبات حينها، لذا وجب الالتجاء إلى الله والإكثار من ذكره ليطهر قلوبنا ويثبت أقدامنا.
ومن ثم فإن أهم ما يعين على الثبات على الحق هو الاعتماد على الله وحده، والدعاء والتضرع بين يديه في أحب الأوقات إليه، وطرق بابه بالليل والنهار، فإنه رؤوف رحيم بعباده، قال تعالى: يُثَبِّتُ اُ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ اِ۬لثَّابِتِ فِے اِ۬لْحَيَوٰةِ اِ۬لدُّنْي۪ا وَفِے اِ۬لَاخِرَةِۖ (إبراهيم: 30). فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الدعاء: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» وهو من هو صلى الله عليه وسلم. ثم لا بد من العمل الصالح باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، قال تعالى: وَلَوَ اَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيْراٗ لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاٗۖ * وَإِذاٗ لَّأٓتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماٗ * وَلَهَدَيْنَٰهُمْ صِرَٰطاٗ مُّسْتَقِيماٗۖ (النساء: 65/67).
ومن الأسباب المعينة على الثبات أيضا نصر دين الله والسعي لإعلاء كلمته، قال تعالى: يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ اُ۬للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتَ اَقْدَامَكُمْۖ (محمد: 8).
فما علينا إلا الإقدام والتوكل على الله والمولى الكريم يتولانا بعنايته، ويجري قدره على أيدينا. قال عز من قائل: وَالذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاۖ وَإِنَّ اَ۬للَّهَ لَمَعَ اَ۬لْمُحْسِنِينَۖ (العنكبوت: 69). جعلني الله وإياكم من المهتدين، وثبتنا على القول الثابت في الدنيا والآخرة. آميين والحمد لله رب العالمين.