يستفزني القلم وتستثيرني المشاعر والانفعالات منذ بدء طوفان الأقصى لأكتب نصرة لهذه القضية التي تسكن شغاف قلوبنا، غير أن ما يصدني عن توقيع الكلمات، أن الأفكار التي تدور في عقلي هي نفسها التي دونتها في مقالات سابقة واكبت بها الحروب المختلفة التي فرضها الصهاينة وداعموهم من حكام الغرب والشرق. فما ذا سأضيف إلى ما سبق؟
هل أقول إن هذا الحدث رباني المصدر والتدبير، ونحن نرى آيات الله منكشفة يوميا ويرصدها كل ذي بصيرة. فقد أراد المجاهدون إنجازا يُحيون به قضيتهم ويعيدونها إلى دائرة الاهتمام الدولي والعربي ويردون بعض الحقوق المغتصبة أمام مرأى العالم، لكن الله جلت قدرته أراد لهم عطاء أكبر ومنحة أعظم، فصاروا بهذا العطاء الرباني صناعا للتاريخ يتعلم منهم العالم وينبهر بهم العدو والصديق. من أين أتى هذا السداد في التخطيط والتوفيق في التنفيذ والإنجاز؟ ما مصدر هذه السكينة وقوة الشكيمة التي ظهرت على المجاهدين وعموم أهل غزة، إذ رغم هول الدمار وبشاعة المجازر الصهيونية لا تجدهم إلا ثابتين ومحتسبين ومُتَحدّين؟ من أين جاء هذا الرعب وهذا الهلع المسيطر على قلوب قادة الصهاينة وشعبهم منذ السابع من أكتوبر؟ قال ابن قيم الجوزية رحمه الله وهو يتحدث عن السكينة التي يؤيد بها الله جل في علاه المجاهدين: “هي آية النصر تخلع قلوب الأعداء بصوتها رعبا إذا التقى الصفان للقتال”. لا يماري مؤمن صادق في أن عناية الله ومدده لم ينقطعا عن المجاهدين في غزة قبل هذه المعركة وفي خضمها.
هل أقول إن هذه المعركة فضحت الحكام المفروضين قسرا على أمة الإسلام، وقد ثبت أنهم حضوا العدو وشجعوه على جرائمه وغطوا سياسيا وإعلاميا وميدانيا عدوانه الوحشي، بل منهم من أعلن قولا نصرته للصهاينة من منبر الأمم المتحدة ومنهم من أعلن فعلا وممارسة دعمه لهولوكوست غزة من خلال إشغال شعبه بالاحتفالات والمهرجانات ومنع كل أشكال التضامن مع الفلسطينيين المقهورين. ومنهم من أطلق كتائبه الإعلامية تسفه الاصطفاف مع المظلوم وتخوض، بتنسيق مع شبكات العدو، حملات إعلامية لتشويه القضية والنيل من سمعة الأحرار المناهضين للهمجية الصهيونية. وكثير من مثل هذا الانحياز سيكشف عنه الزمن، كما أماطت كثير من الوقائع، سابقا، حجم ولاء حكام العرب، خاصة، للصهاينة وداعميهم الغربيين. إن أنظمة سايكس بيكو في منطقتنا هي نتاج غربي خالص، حكاما وملأً، فلا عجب أن يحولوا دولهم إلى أنظمة وظيفية خادمة للسيد الذي أنشأ لها وجودا وحمى بقاءها ويدعم استمراريتها.
هل أقول بأن هذه الحرب عرَّت بشكل سافر ما كان يسمى الضمير العالمي، بحيث هشمت وحشية الصهاينة واجهة منظومة القيم التي طالما تشدق بها الغرب وجعلها مطية لحربه الناعمة على العالم وسندا لاستكباره وعلوه، فإذا بهذه الحرب تهوي بمصداقية تلك القيم سبعين خريفا. فقد شاهد العالم رئيس أمريكا يكذب بدون أن يرف له جفن ويزور الوقائع، التي سرعان ما ستسطع عليها شمس الحقيقة ليكتشف الناس أن لا مصداقية ولا خلاق له ولا لمؤسسات دولته، خاصة الإعلامية منها. والعجيب أن نفس السلوك سيصدر، في الآن نفسه عن حكام غربيين آخرين، في تناغم يوقظ الوسنان إلى أن شعارات حقوق الإنسان والحضارة والإنسانية وقيم التسامح والسلام والديموقراطية والحرية وغيرها لم تكن قط إلا أدوات للهيمنة ووسائل للحرب الناعمة لتخدير العقول وسلب الإرادات واختراق المجتمعات. فأين ذهبت الديموقراطية ومبادئها حين لم تستشر البرلمانات الغربية بشأن دعم حرب الاحتلال الصهيوني ضد الأبرياء في غزة، وأين طارت المهنية والمصداقية ونحن نرى أعرق المنابر الإعلامية مثل البيبسي (bbc) تمارس التضليل جهارا نهارا وتحارب الحقيقة الساطعة بكم الأفواه ومحاربة النزهاء من الإعلاميين؟ في أي من مجاهل التاريخ تاهت الديموقراطية والرأي العام المناهض لهذه الاعتداءات الصهيونية لا يلقي له أحد بالا؟ متى كانت الحكومات الغربية تؤمن بهذه المثل بلْه أن تسعى لتعميمها على البشرية؟ إن مآسي القرن العشرين وحدها كفيلة بأن تجعل الأعمى يبصر الحقيقة.
هل أقول بأن المقاومة الفلسطينية حققت نصرا استراتيجيا كبيرا وتقدمت خطوات كبيرة ومتسارعة نحو التحرير الكامل لأرضها وشعبها من نير الاحتلال، فهذه حقيقة لا تزيدها الأيام، وما يحدث الله جلت قدرته فيها، إلا رسوخا ويقينا. فها هو العدو الصهيوني يصاب بالعمى الاستراتيجي ويدخل في حرب استئصالية مدمرة تسحق البشر والحجر ظنا منه أن هذا هو السبيل الوحيد لردع المقاومة. فهو يجهد في تكبيدها خسائر عظيمة سيتطلب تجاوزها زمنا طويلا وإمكانات لن تتوفر لها في الغد القريب، وستغرق في مستنقع تدبير المآسي التي ستخلفها هذه الهجمة الصهيونية، مما سيجعلها بعيدة عن تكرار سيناريو الهجوم مرة أخرى، لأن التكلفة ستكون باهظة جدا. لكن في خضم هذا الجنون، يرتكب الصهاينة مئات الأخطاء الاستراتيجية ويتعامون عن كثير من الحقائق الميدانية، فخسائرهم في كل المجالات تتصاعد، وعزلتهم السياسية في تنامي وأهرامات الدعاية التي ضللوا بها العقول لعقود تتهاوى على رؤوسهم بسبب اتساع دائرة الوعي لدى شعوب العالم بهمجيتهم ووحشيتهم. كما أن داعميهم من الشرق والغرب يؤدون تكلفة استراتيجية، مادية ومعنوية، جراء دعمهم لهذه الجرائم وتبريرها. يضاف إلى ما ذكر تمزق النسيج الاجتماعي للصهاينة وتفتت وحدتهم السياسية. لقد بدأ تفكير اليهود في فسطين يتركز حول لعنة العقد الثامن وصارت كثير من النخب مقتنعة أن هذه اللعنة قادمة لا محالة، خاصة وأنهم يرون تهاوي مبررات وجودهم ويرصدونها.
كثير مما يمكن قوله الآن هو نفس ما دونته في مقالات سابقة، لأنه ما أشبه اليوم بالبارحة، فهذا مسار عبر عنه الفصيح قولا وهمة وقلبا، أبو عبيدة بلازمته التي يختم بها جميع خطاباته: “وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد”، وكلاهما منحة ربانية عظيمة. المهم أن قطار التحرر الفلسطيني بقيادة المقاومة الباسلة في غزة يشق طريقه صابرا محتسبا لا يضره من ناصبه العداء ولا من خذله وقت الحاجة للولاء.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. صدق الله العظيم.