لم يعد عشق العرب لإسرائيل والغرام بها خافياً على أحد، كما لم يعد اللقاء بها والخلوة معها سرياً، وما عاد المغرمون بها يخافون من ذيوع سرهم وانتشار خبرهم، إذ باتوا يلتقون بالإسرائيليين علناً وفي كل مكانٍ، في المؤتمرات والندوات، وفي الاجتماعات والزيارات، وفي فلسطين المحتلة وفي أوطانهم العربية وخارجها، بعد أن كان اللقاء بهم يتم في الخفاء ووراء الكواليس بعيداً عن الأنظار والعيون، وبجهودِ ووساطةِ رؤساءٍ وملوكٍ وقادةٍ ومسؤولين أمنيين وإعلاميين وتجارٍ ورجالِ أعمالٍ كبارٍ وغيرهم، الذين كانوا يبذلون جهوداً مضنية في إقناع المسؤولين العرب بأن اللقاءات ستكون سريةً جداً، وبعيداً عن الأضواء، ولن يسمع بها أو يعرف عنها أحدٌ شيئاً، وأنها لن تشكل إحراجاً لهم، ولن تكون ورقةً ضدهم، ولن يستغلها خصومهم.
لم نعد نستغرب وجود اتصالاتٍ هاتفيةٍ اعتيادية ويومية بين مسؤولين عربٍ وآخرين إسرائيليين، بين مختلف المستويات والتخصصات، يتم خلالها تبادل الرسائل والتهاني، وتقديم النصح وتبادل المشورة، وإبداء الرغبة في المزيد من التعاون الأمني والمعلوماتي والعمل المشترك، في ظل اقتناع الطرفين بالظروف المشتركة التي تجمعهم، والأخطار المتوقعة التي تتهددهم، والأعداء المفترضين الذين يتربصون بهم ويتآمرون عليهم.
لم يعد الاتصال بالإسرائيليين تخابراً مع عدوٍ وتعاوناً معه، أو اتصالاً بجهاتٍ أجنبيةٍ معاديةٍ أو صديقةٍ، ولم يعد مرتكبه مجرماً ولا خائناً، ولا جاسوساً أو عميلاً، ولا شاذاً أو مدسوساً، ولا يعتبر عمله عيباً أو نقيصة، وعليه فلا قانون يدينه، ولا محاكم تعاقبه، ولا سلطة تمنعه، ولا مجتمع ينبذه، ولا عرف يجرده ويحرمه.
وقد أصبحنا نسمع عن مسؤولين عربٍ يصطافون في فلسطين المحتلة، ويفضلون الشواطئ والفنادق الإسرائيلية على غيرها، فييممون وجوههم شطرها حباً، وفيها يستجمون ويسبحون متعةً، ويلعبون ويقامرون، وينفقون في مرافقها ملايين الدولارات، ويغدقون على العاملين فيها وجلهم من الإسرائيليين ملايين أخرى، وهم يعلمون أن أموالهم هذه هي ثمن الرصاصات التي يقتل بها أبناء الشعب الفلسطيني، أو وقود الدبابات والطائرات التي تقصف بيوتهم وتدمر حياتهم.
ولعل الجانب الإسرائيلي يكشف متعمداً من حينٍ لآخر عن بعض هذه الاتصالات، ويفتخر رئيس حكومة كيانهم بأن علاقات كيانه مع العديد من الأنظمة العربية باتت قوية، وأن التنسيق السري والمعلن بينهما أقوى بكثيرٍ مما كان يتوقعه ويحلم به آباء الدولة العبرية الكبار، الذين كانوا يتطلعون إلى اعتراف الجوار العربي بهم، ويأملون من خلاله أن يعيش شعبهم معهم في وئامٍ وأمنٍ وسلامٍ، بعيداً عن الكره والحروب والقتال.
ويضيف أن كيانه لم يعد بحاجةٍ إلى وسطاء أجانب للتواصل مع الحكومات العربية، التي باتت تبادر بنفسها بالاتصال، إيماناً منها بأن مصالحها مع كيانه أكثر، وأن أمنها إلى جانبه أقوى، واستقرارها في وجوده أعمق، وأنها وإياه قادرين على صد أي عدوان، ومواجهة أي خطر، اعتقاداً منهم بأن الكيان الصهيوني أقوى من أن تستهدفه قوة معادية، فضلاً عن أن علاقتهم به ترضي الإدارة الأمريكية ودول أوروبا المختلفة، وتفتح أمامهم أبواباً كثيرة موصدة، بل إن بعضهم يراهن على أن الحل في سوريا سيكون في صالحهم بضمانة الحكومة الإسرائيلية، التي لن ترضَ عن أي حلٍ يهدد أمنها ويستهدف استقرارها.
أما الغريب في الأمر والمستنكر جداً، هو أن الذي يقوم بالوساطة بين المسؤولين العرب ونظرائهم الإسرائيليين إنما هم فلسطينيون، ممن يعيشون في فلسطين المحتلة وخارجها، وممن تعرضوا وأهلهم للطرد والقتل والاعتقال، وممن يرون الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على شعبهم، وحروبهم الدامية ضدهم، ولكنهم رغم ذلك لا يخفون أدوارهم في الوساطة بينهم، ولا ينكرون نجاحاتهم المتكررة في إقناعهم والجمع بينهم، ويتنافسون فيما بينهم أيهم يكون أكثر حظوةً وقربى، ومحل ثقةٍ وطمأنينةٍ لدى المسؤولين الإسرائيليين، وبعضهم يحرص متبجحاً على التقاط الصور التذكارية معهم، إذ لم يعودوا يشعرون بالخجل أو العيب مما يقومون به.
هؤلاء الفلسطينيون وإن كانوا مسؤولين أو مفكرين، وإعلاميين أو مثقفين، وأمنيين أو سياسيين، فإنهم لا يملكون الحق في نفي الجريمة عن عملهم، ولا في وصف ما يقومون به بالبراءة والطهر والشرف، فهم يتذرعون كذباً بأن عملهم يخدم القضية الفلسطينية وينفع أهلها، ويخفف عنهم ما هم فيه من عناءٍ وبلاءٍ، ويقدم الخدمات والمساعدات إليهم، وأن جهودهم تثمر دوماً تخفيفاً للحصار وتسهيلاً للمعاملات.
هؤلاء يكذبون على أنفسهم قبل أن يكذبوا على غيرهم، ويخونون وطنهم ولا يبرونه، ويفرطون في حقوق شعبهم ولا يخدمونه، وهم لا يملكون الحق في إضفاء الشرعية على جريمتهم، ولا يجوز لهم أن يمنحوا صكوك البراءة والغفران للمتورطين أمثالهم، والساقطين الذين يشبهونهم، وضعاف النفوس الذين يظنون أن نجاتهم هي في التحالف مع العدو، وأن الفوز لا يكون إلا بالاتفاق معه، وما علموا أن عشقهم لها سيقتلهم، فقد اعتادت مومساتهم أن تقتل عشاقها، وأن تخنق من أحبها.
أظنكم تعرفون جميعاً أن محركي في الكتابة عن هذا الموضوع الذي لا أراه جديداً، بل هو قديمٌ ومتكررٌ، لكن بعض الحوادث تحركه وتدفعه إلى الواجهة من جديد، كان زيارة اللواء السعودي أنور عشقي إلى فلسطين المحتلة، واجتماعه مع الوفد المرافق له بمسؤولين إسرائيليين عسكريين وأمنيين وسياسيين، وتأسيسهم لاجتماعاتٍ قادمةٍ ولقاءاتٍ أخرى أكثر مسؤوليةً وعمليةً، ستجعل من دولة الكيان الصهيوني عضواً طبيعياً منسجماً مع دول المنطقة ومتفقاً معها، وستنفي عنه صفة الاحتلال والاستيطان، وستشطب عنه وصف العدو الذي يتطلع للتخلص منه بمزيدٍ من الظلم والعدوان.
إن هذه الزيارة مرفوضة ومستنكرة، ولا نقبل بها نحن الفلسطينيين، ولا غيرنا من العرب الشرفاء الأحرار، ولن نسكت عنها أو نقبل بها بحجة أنهم جاؤوا بناءً على رغبة الفلسطينيين، وبدعوةٍ وتسهيلٍ منهم، لمساعدتهم وتحسين أحوالهم، وتخفيف الحصار المفروض عليهم، وما علم هؤلاء وغيرهم أن الفلسطينيين أحرارٌ كرامٌ، وأشرافٌ نبلاءٌ، لا يتطهرون بنجس، ولا يقبلون بالرجس، ولا يأكلون بشرفهم ولو أصابهم الجوع والعري، والفقر والحاجة.