التربية بالتلقين والموعظة والقدوة لها أثر كبير على المربى، لكن قد يكون ذلك غير كاف لإنجاح عملية التربية. فانتهاز مناسبة طارئة، أو مشكلة مفاجئة، أو موقف عارض قد يؤثر تأثيرا عميقا في عقلية الإنسان ونفسيته ووجدانه أكثر مما يفعله مائة درس في فضاء مغلق محدود.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، إذ كان ينتهز الفرصة المناسبة والمواتية، فيستثمر الحدث العارض، ليجعل منه منطلقا لما يريد أن يبثه أو يعلمه أو يذيعه، فيكون تأثيره على المخاطبين أقوى وأبين وأوضح.
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثدياها تسعى، إذ وجدت صبيا لها في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا وهي تقدر أن لا تطرحه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها”.
اختار الحبيب صلى الله عليه وسلم حالة قائمة بين يديه مع أصحابه ليعالج أصعب الموضوعات، بأسهل الطرق وأيسرها. إنه موضوع معرفة الله تعالى، والدلالة عليه سبحانه، وكيف نحبب العباد إلى الله تعالى؟ وكيف نحبب الله تعالى إلى عباده؟ وهو محور القرآن والسنة، وأفضل ما جاء به الأنبياء والرسل عليهم السلام، والأولياء ومن تبع نهجهم إلى يوم الدين.
فأعطى الحبيب صلى الله عليه وسلم النموذج الأمثل لغرس هذا النوع من المعرفة والإيمان من خلال فرصة سانحة ساقها الحق تعالى، لتكون درسا بليغا لعباد الله أجمعين.
الحدث المفاجئ لفت اهتمام الصحابة الكرام، وشد انتباههم، وهذا الحال من التوهج التام والاستعداد الكامل والوقت الملائم، ينتظره بشوق كل معلم، والمعلم الأول التقطه بسرعة فائقة، ليغرس في نفوسهم حب الله تعالى ويرسخه ويثبته. فاستعمل الحبيب أسلوب الاستفهام، الذي يفيد طلب الفهم لكن الاستفهام هنا خرج عن معناه الحقيقي إلى معنى التعجب وهو معنى بلاغي جميل يزيد الكلام رونقا ويزيد الإقناع قوة ويزيد الانتباه اشتدادا.
العجب كل العجب من صنيع تلك المرأة المسكينة، التي احترق قلبها، اخترقت الصفوف واجتازت المخاوف، واقتحمت المخاطر، ولم تنتبه لتكشف ثدييها، فلم تأبه للحاضرين من الرجال ولم يهدأ لها بال حتى ضمت الرضيع إلى صدرها، وسقته من حليبها مؤدية واجب الفطرة التي فطرها ربها عليها.
فأي رحمة، وأي رأفة، أودعها الرحمن الرحيم في قلب هذه الأم؟ بل وقذفها سبحانه في قلب المرأة، لتفدي بروحها وليدها، وتحافظ على بقائه وهو لا يعلم ما يحيط من حوله؟ وأية رعاية، وأية عناية من المولى الرحيم الذي خلق الإنسان ثم هدى وسخر له الأم خادمة له، وأفاض عليها قبسا من رحمته، ووهبها هذه العاطفة الجياشة الحانية، حتى لأنها تؤثر الموت فداء لحياته، فخطفت لذلك الألباب وانجذبت الأبصار، وإن في ذلك لآية لمن ألقى السمع وهو شهيد. إنها الرحمة الإلهية، التي وسعت كل شيء
وقد قرب الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الواسع باستعمال التشبيه ليثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به. فبما أن رحمة الله لا تدرك بالعقل، ولا يمكن الإحاطة بها كليا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قربها إلى السامعين بحال تلك المرأة، حتى يتخلقوا بأخلاق الرحمن سبحانه، وليكونوا ربانيين، كما قال الله تعالى: كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون. وأيضا ليتحلوا بما يقدرون عليه من الرحمة والرأفة لتشمل كل الكائنات حتى الذباب والذر، ابتغاء لرضا الله عز وجل، وأملا في أجره وثوابه.ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في جزء من حديث رواه البخاري رحمه الله تعالى: “في كل كبد رطبة أجر”.
هكذا نلاحظ أن الحدث قد استنفرت فيه جل الحواس السمع والبصر والشم واللمس وعلى رأسها البصر حين قال: (أترون…؟) وخاصة المكان (الساحة الميدانية)، إذ غالبا، ما تقترن معه تلك الحواس جميعها، مما يجعل المعرفة أكثر تشكلا وأطول امتدادا، بينما لو كانت تلقينا لكانت أكثر انفلاتا وأكثر تلاشيا ولهذا يقال: (ما نسي شيء اشتركت فيه أكثر من حاسة) ويقال أيضا: (ليس من رأى كمن سمع).
ثم إن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم اتبع طريقة المقايسة والمثل والتشبيه، وهو أكثر الأساليب استعمالا وقتئذ، ليوجه الصحابة الكرام إلى حب الله تعالى وطاعته والدخول في رحمته اختيارا لا اضطرارا.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: “لله أرحم بعباده من هذه بولدها”. فهذا الأسلوب، أيضا، يضمر رحمة مستقاة من لفظ الحديث، فهو جملة خبرية عادية، لكن المتذوق للغة النبوية يجد أن الجملة خرجت عما وضعت له، لتفيد معنى إنشائيا بلاغيا وهو طلب الدخول في رحمة الله، وأمر ا لولوج في طاعته، بل ودعوة للتخلق بأخلاقه.
ويمكن أن نشير إلى أن الحدث ما كان ليبعث على كل هذا الاهتمام لولا عناية المربي الأول بكل ما أحاطت به عنايته، وكل ما وقعت عليه عيناه الشريفتان، حيث لا يترك فرصة صغيرة ولا كبيرة إلا وبث فيها نصحه وعلمه إلا وحولها من مجرد حدث عابر إلى مرتع خصب لغرس قيم الفضيلة ومكارم الأخلاق، كي تبقى ذخرا لهذه الأمة إلى يوم القيامة. وغير هذا كثير في السنة النبوية، لكن حسبنا أن نذكر في هذا السياق ما حدث في ليلة مقمرة، فيما رواه البخاري عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: “كنا جلوسا ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، فافعلوا ثم قرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.
ونخلص في الأخير إلى أن التربية بالأحداث تمكن من:
~ فتح الحوار بين المربي والمربى مما يؤدي إلى إثراء الأفكار وإغنائها.
~ تحقيق الأهداف السلوكية معرفيا ووجدانيا وسلوكيا.
~ جعل المربى يرغب باستمرار في التعلم دون ملل، لأن الأحداث تتميز بالتنوع.
~ إتاحة الفرصة للمربي لإثارة الأسئلة والإجابة عنها (الأسلوب العلمي لحل المشكلات).
~ إيقاع التأثير البالغ في النفس والفكر والقلب، لأن ذلك يتم تحت مساحة جل الحواس.
فالمربي البارع – عموما – لا يترك الأحداث تذهب سدى، لأنها من أبلغ وسائل التربية أثرا وعمقا، ففي كل حدث درس، وفي كل درس عبرة لا تنسى.