10 يوليوز 2023 سيظل تاريخا محفورا في الذاكرة -إن طال في العمر أجل- كما حفرت تواريخ من قبله. في هذا اليوم كنت على موعد مع آخر توقيع أخطه على الأوراق الرسمية لوزارة التربية الوطنية معلنا انضمامي إلى فئة المتقاعدين.
في حفل بهيج غمرني زملائي الفضلاء والفضليات -جزاهم الله خيرا وزادهم فضلا- بعبارات المدح والإطراء والحب والتقدير. كانت لحظات مؤثرة ستظل تذكارا موشوما في القلب.
عشت لحظات غريبة وأنا عائد إلى المنزل. انجمع التاريخ في مخيلتي واندمج واختلط، ثم تمطط وتداخلت أحداثه تلقائيا.
تذكرت السادس عشر من شتنبر سنة 1988 وأنا ألج الثانوية العسكرية بإفران لأوقع محضر التحاقي بأسرة التعليم، بل تراجعت بي الذاكرة ذات صباح من أكتوبر سنة 1970 حينما أخذت جدتي -رحمها الله- بيدي إلى مدرسة القرية لتدفع بي في طابور من الصبيان لم يكونوا يعرفون ما ينتظرهم، مسيرون بإرادة أوليائهم الذين تجرعوا مرارة الأمية. ساعتها كنت كغيري مجروفا مع التيار، لا قدرة لي على تمثل نهاية المسار، تتجاذبني الحياة البدوية بكل همومها وانشغالاتها من رعي الماشية إلى المشاركة قدر المستطاع في الأعمال الزراعية وما إلى ذلك. تلك كانت النوادي والروض الأول الذي تعلمت فيه بعض أبجديات ومهارات الحياة.
قضيت ثمان عشرة سنة تلميذا وطالب علم متدرجا في أسلاك التعليم، بعدها خمسا وثلاثين سنة -مرت كلمح البصر- متحركا داخل قاعات، اختلطت علي خرائطها لكثرتها، أمام كائنات بريئة اسمها تلاميذ اختلفت مؤهلاتهم وأحلامهم وطموحاتهم، لكن الجامع بينهم أنهم كانوا ماضين إلى ما قدر لهم من أقدار. وكثيرا ما صادفني أحدهم أو إحداهن في مكان ما وحيّاني، وأنا في حالة تساؤل واستغراب، قبل أن يذكرني باسمه والزمن والمكان الذي جمعني به، ثم يتوارى كما توارت تلك الأيام.
خمس وثلاثون سنة في مهنة التدريس، عمر طويل أنفق -والحمد لله- بين الحروف والكلمات العائمة في بحر المعرفة. لا شك أنني استفدت أكثر مما أفدت أو قدمت. ولكم أنا فخور بالانتماء إلى أشرف مهنة، والتي كنت وما زلت أراها أم المهن، وحسبي أنها عرفتني وجمعتني بآلاف القلوب التي آمل أن يذكرني بعضها بخير أو يمن علي بدعاء في ظهر الغيب.
أحببت مهنة التدريس وأفنيت فيها عمرا، فكنت أنا التلميذ في كل وقت وحين. في كل مرة كنت أتعلم الجديد. تعلمت قيما ومعارف كنت أحسب أنني أمررها للتلميذ، فإذا بي أنا المستفيد…
في لحظة من مسيرتي الطويلة هذه من الله علي بالهداية بعد أن كادت قدماي تزيغ في طريق الغواية. أسأل الله عز وجل أن يحفظني في هذه النعمة إلى النهاية.
ألهمني الله سماع نداء التوبة “يا أيها الناس توبوا إلى الله” (سورة التحريم، الآية 8)، وأخذت بدراعي يد رحيمة إلى جماعة تتوب إلى الله وتدعو الناس إلى التوبة. بين تلك الأحضان، وفي تلك الرياض، عرفت -وأنا أقاوم قصوري وغفلتي- بعض حقائق هذه النفس الأمارة بالسوء.
بين الهمم العالية الشامخة تعلمت الكثير؛ عرفت أن طريق الحق وإحقاق العدل دونه مسافات طوال من المعاناة والابتلاءات، وأن هذه الابتلاءات لا تعدو شيئا أمام “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار” (سورة هود، الآية 113)، فاصطففت وأنا الضعيف -إلا مما من الله علي به من إيمان ويقين- إلى جانب المستضعفين ضد الظلم والطغيان.
كل ذلك تعلمته هنا وهناك في مسيرة طويلة، أسترجع بعضا منه بمناسبة هذا الحدث، داعيا الله عز وجل أن يكمل ما بقي من العمر في طاعته، وأن يختم لي ولمن قرأ كلماتي بالحسنى وزيادة، كما وعد عباده المنعم عليهم، وأن يجعلنا منهم، وإنا إلى الله منقلبون.