بعد قرار التطبيع، المتخذ بإرادة رسمية منفردة، لم تراع الإرادة الشعبية المستقرة تقليديا في دعم القضية الفلسطينية ومقاطعة كيان الاحتلال الصهيوني، انطلق طوفان من “الجدل” المجتمعي، العاطفي في أغلبه، البعيد عن الحقائق التاريخية والسياسية، والمفتقد لمسحة -ولو في حدها الأدنى- من التَّعقُّل.
ووقع الخلط المتعمد في كثير من دفوعات السلطة ومؤيديها بين مصير القضيتين، وبين الحقائق والأوهام، كما تمت محاولة تبييض “مساحات رمادية” وتهريبها إلى منطقة “أمان أخلاقي” وإلباسها لبوس الشرعية ودمغها بوسم الحقيقة، في محاولات مكثفة لتبرير “الفعلة الشنعاء”. كل ذلك مع انكشاف حالة واسعة من الهشاشة النفسية والفكرية من جهة، ومن التحوّل في الموقف والوقوع في “التبريرية” من جهة ثانية، وهو ما جعل فئات مجتمعية واسعة عرضة للتغليط والتزييف.
تزامن عَرَضي.. أحقًّا؟!
من الأشياء التي حاولت الدعاية الرسمية وشبه الرسمية ترسيخها، القول بأننا بإزاء قضيتين منفصلتين (الصحراء والتطبيع)، وأن التزامن الشكلي (زمانا وقالبا) لا يرقى لأن يجعلنا بصدد “مقايضة غير أخلاقية”، وقع فيها المغرب حين استلم بيُمناه اعتراف ترامب بسيادة المغرب على الصحراء مقابل توقيعه بيسراه على قرار التطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.
وهي محاولة مكشوفة تماما، ذلك أن التزامن الشكلي يجد سندا عميقا في “الترابط الموضوعي”، وهو السياق الإقليمي العام الذي طبعه بشكل صريح منذ أزيد من عام ونصف عنوان “صفقة القرن”، وميّزه في الأشهر الأخيرة إقدام دول عربية (الإمارات والبحرين والسودان) على خطوة التطبيع، باعتبار ذلك أحد بنود الصفقة المشؤومة، والغايةُ التصفية النهائية للقضية الفلسطينية.
كما أن سلوك المغرب كان يشي بأننا ماضون بإصرار وثبات، وإن ببطء، إلى لحظة التطبيع الرسمي، كان من مؤشرات ذلك الاختراق الصهيوني -المُتخفِّي- للمشهد الثقافي والفني والاقتصادي والعلمي والإعلامي للواقع المغربي مرات متكررات، وعرقلة مشروع قانون تجريم التطبيع الذي نادت به جهات مدنية ولقي دعما من فرق برلمانية، والتوجس الرسمي والرقابة الأمنية لأنشطة دعم فلسطين وإدانة “إسرائيل”، والأوضح من كل ذلك، والأَحْدَث أيضا، اعتراض المغرب مع المعترضين على مشروع قرار فلسطيني يدين التطبيع الإماراتي الصهي-وني في شتنبر الماضي بداعي أن القرار سيادي!
لسنا بإزاء تزامن عارض، وفقط، بل إننا مع الأسف أمام مقايضة سياسية غير أخلاقية، تعترف من خلالها الدولة بمحتل لأرض غيرنا مقابل اعتراف طرف ثالث بسيادتنا على أرضنا، لتبدو المعادلة -يا للحسرة والأسف- وكأننا والمحتل سواء.
تعارض مُصْطَنع
حَبَلَت بروباغندا التبرير بمقولات مكثفة تفيد بأن كسب التأييد الأمريكي ما كان ليمرّ إلا عبر الاعتراف بدويلة الاحتلال اللقيطة، لينتقل الشعار المتهافت “تازة قبل غزة” إلى ترجمة سياسية حقيقية، ولتصبح القضية الفلسطينية بكل رمزيتها الدينية والتاريخية والإنسانية، في صريح ومضمر هذه البروباغندا، حمْلا ثقيلا يعطل مصالحنا السياسية.
وإذا ما أشحنا بوُجُوهنا عن صورة قاسية، لما تثيره من ألم نفسي ومعنوي، ترتسم فيها مجموعة من الدول تتواطأ على سلوك غاية في القسوة والأنانية، بينها دولتنا مع الأسف، حين تدير ظهرها لتلكم الأم المكلومة (فلسطين) وهي ترى الجمع ينفض عنها، تاركا إياها لمصيرها في مواجهة مغتصب متوحش احترف القتل بعد أن استعمر الأرض، إذا ما فعلنا ذلك وأشحنا وجوهنا، فإن النظر العقلي المحض لا يتبيَّن المصلحة والربح في إقامة العلاقة مع كيان احتلال تتيح، بل تدعو، كل الشرائع إلى مجابهته ومواجهته، لا مصالحته وفتح الأحضان لقادته الملطخة أياديهم بدماء الأبرياء.
ولا أدري طبيعة هذه الضرورة في ملف الصحراء، المستقر على وضعه، التي ألزمت المغرب بهذا الخيار الذي لم يجد منه بد (حتى إنك لا تلمَحُ في الخطاب مَلْمَح الكراهة التي تكون مع الضرورة)؟ وما “الضرر المستجد” الذي ألجأنا إلى الخضوع لابتزاز رئيس مهزوم يمضي أيامه الأخيرة في الحكم (مع ملاحظة أن باحثين جادين يشككون في الصلابة القانونية والسياسية لقرار ترامب)؟
المغاربة تاريخيا مع فلسطين، يرتقون بها، بل يرتقون بأنفسهم، حين يضعونها في مرتبة قضية وطنية صنوا للصحراء. فإذا كان لأبناء ابن تاشفين والخطابي في التاريخ الضارب جولات جهاد ومواجهة وفي جغرافيا القدس ساحة وباب وأثر، فإن لهم في الزمن القريب صمودا ودعما ومسيرات ومحطات وعمقا شعبيا كبيرا يضع غزة ضمن خارطة الوطن ولا يجعلها، كما يُراد له اليوم، ضدّا لتازة.
كان المغاربة يرددون في ثقة ورسوخ “المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها”، فإذا بنا نقبل لإقرار ما نعتبره مُسلمَّة لا جدال فيها (مغربية الصحراء) أن نعطي الدنية ونعترف بكيان إحلالي استعماري!
سيل عَرِم من “المغالطات”
ثمة مغالطات كثيرة يتم الترويج لها في خضم حفلة تزييف الوعي الجارية، هذه بعضها:
– فجأة أصبح لنا “جالية يهودية مغربية في إسرائيل”، بمعنى أن الصها-ينة الموجودين على أرض فلسطين المحتلة اليوم، ورغم أنهم يشاركون في احتلال بلاد غيرهم، ورغم أنهم يقتلون أطفالهم ونساءهم وشبابهم، ورغم أنهم هجّروا الملايين من مواطني تلك الأرض المباركة بنص القرآن الكريم وشتتوهم في دول العالم، ورغم أنهم يحتلون مع المحتلين أولى القبلتين وقدس الأقداس… فينبغي أن نحفظ لهم مغربيتهم ونعتز بجنسيتهم الأصلية ونحفظ وطنيتهم ونستقبلهم استقبال الأبطال حين يقدمون علينا من غزواتهم العظيمة!
بصيغة أخرى 10 وزراء صها-ينة من أصل مغربي (الأعضاء في حكومة بنيامين نتنياهو) مواطنون مغاربة كاملو المواطنة، هكذا ينبغي أن ننظر إليهم، لا أن نراهم وزراء قتلة في كيان احتلال لايشرفنا وُصْله ووصلهم! (ولسنا في حاجة إلى إعادة ألف بائيات التمييز بين اليهود المواطنين والصهاينة المحتلين. إذا لا يمكنني وأمثالي من مسلمي هذا البلد إلا أن ننحني احتراما وإكبارا لهذا الرجل اليه،ودي الحرّ والشهم سيون أسيدون بل وندعو السلطة لأن تعامله بالاحترام الذي يليق به لا أن تترصده لتمنعه من التعبير عن رأيه).
ولعل في النكتة التي كتبها أحد الأصدقاء في هذا الفضاء، ومفادها بأن هذا المنطق يفتح الباب للحديث عن “الجالية المغربية لدى داعش” و”الجالية المغربية في الدولة الإسلامية في العراق والشام”، سخرية كاشفة لهذا المنطق الأعور. وإن كانت سخرية بطعم مرارة العلقم.
– في محاولة لتخفيف وقع الفاجعة، وبيان أنها مغايرة لخطوة التطبيع الإماراتي البحريني السوداني، ثمة من ادعى أننا بإزاء “تطبيع جزئي” لا يرقى لأن يكون علاقة طبيعية كاملة، لتنكشف الحقائق سراعا على لسان وزير الخارجية الذي تحدث صراحة، وكأنه يفتخر بإنجاز، عن علاقات كاملة، وليتولّى الإعلام العبري الحديث عن حقيقة الصفقة/المقايضة وحجم شمولها الحقيقي.
– وفي سياق التخفيف، والتزييف معا، شاع القول بأنه لا تعارض بين التطبيع مع “إسرائيل” ودعم فلسطين، وكأنهما دولتان صديقتان ولا تحتل الأولى الثانية، وكأن ما سيمنحه المغرب لكيان الاحتلال من شرعنة رمزية وأرباح مادية سيصب تلقائيا في الرصيد الفلسطيني، وكأننا لسنا بصدد حكومة يمينية متطرفة تواصل قضم الأرض وبناء المستوطنات وقتل الفلسطينيين!
– وثمة ترهات أخرى كثيرة تتردد كالقول بأن الفلسطينيين باعوا أراضيهم للمحتل، وبأنهم هم أنفسهم يطبعون معه من خلال التعامل اليومي، والعالم يتغير والعلاقات بين الدول قائمة على المصالح فقط ولا مكان فيها للعاطفة، والجزائر هي من أجبرتنا على هذه الخطوة وهي من تتحمل الأوزار…
وصدقا، العقل زينة. ويا ليت هذه الحملة الدعائية الواسعة اتسمت بشيء من المنطق وقليل من الحكمة، لجنّبت نفسها الوقوع في الميكيافيلية المقيتة والانهيار المريع لشيء اسمه العقل ولشيء آخر اسمه الأخلاق.
فلسطين أكثر من “قطعة أرض”
فلسطين أكثر من قطعة من بلاد المسلمين اغتُصِبت أغلب أراضيها، لفلسطين مكانة في عقل ووجدان كل إنسان حر شريف باعتبارها أرض احتلال يضمن لها القانون الدولي حق مقاومة محتلها، ولفلسطين مكانة في روح كل مؤمن مسلم يعتبر أنها أرض مباركة يهفو قلبه إلى مسجدها الأقصى أولى القبلتين وإلى قدسها الأقداس والمآذن والكنائس، ولفلسطين سيرة يحكيها التاريخ هي سيرة الأنبياء والأديان والحضارة. فأن تُسرِّع الآلة الدعائية دحرجتها في الخطاب، وإلى الانتقاص من مكانتها وإلى محاولة تلميع صورة مغتصب أراضيها، فذلك مؤشر كبير على طبيعة الصفقة وخطورتها.
إن من أبلغ ما قيل عن مكانة القدس، ومعها كل فلسطين، ما أورده المؤرخ طارق البشري حين قال “القدس لا يمكن أن تستحيل إلى أنها محض موقع وعاصمة، فهي ليست “برلين” يمكن أن تحلّ محلّها “بون” في الضمير الألماني، وهي ليست “إستانبول” يمكن أن تحل محلها “أنقرة” في الضمير التركي. ولكنها “القدس” بغير بديل.
وهي ليست أرضا يستبد شعبها بتقرير المصير بشأنها، ليست كذلك فقط، لأننا مسؤولون عنها يوم الحساب، مسؤولون عنها بوصفنا الديني، بعد أن ننتقل من الدنيا إلى الآخرة، ومن العالم المشهود إلى عالم الغيب”.