في مراحل الدعوة ومراتبها (2): تَعْطيفُ الْمُحايِد

Cover Image for في مراحل الدعوة ومراتبها (2): تَعْطيفُ الْمُحايِد
نشر بتاريخ

التعاطف ميل عاطفيّ، وأُنْسٌ أوَّلِيٌّ، وأُلْفَةٌ ناشئة، وقَبول عامّ، أن يتعاطف فرد مع فرد، أو مع مجموعة أفراد، أو مع تنظيم دعويّ أو سياسيّ، هو قبول مبدئيّ عام، لا يعني الاتفاق على كل شيء، ولا التسليم بما هنالك جملة وتفصيلا.

قد يكون أساس التعاطف مع تنظيم دعوي معين، استحسانٌ لبعض مبادئه أو شعاراته، أو درجة قربٌ من أعضائه، أو تحيّزٌ فكري أو شخصي، بسبب من الأسباب، إلى نهجه وطريقة عمله، أو إعجاب بمواقفه وتقدير لجهوده. وغالبا ما يكون المفتاح نموذج فردي معين، شخص طيب المعشر، حسن الأخلاق، لامس الواردُ صدقَه ونُبْلَه فتعاطف ضمنا مع ما يمثِّلُهُ من دعوة، وقد يكون ناتجا عن إعجاب بموقفِ انتصارٍ للحق، أو تقديرا لصدى صدق حال وعلامة تقوى، أو تميّزًا بالسّمت والحِلم والكرم.

إن الباب الأخلاقيَّ السلوكيَّ المعاملاتيَّ من أهم أبواب الإعجاب بالدعوة ورجالها ونسائها، وهو مدخل رئيسيّ لمن لم تفسُدْ موازينُ فطرتِه، ولم تتلوثْ معاييرُ حكمه بأحقاد الدنيا وسموم حبِّها والصراعِ عليها.

أما الإعجاب من خلال المواقف الكبرى، فإنما يكون ناتجا عن أهداف وشعارات ومواقف عُرف بها التنظيم ولاقت استحسانا وقبولا، أو نتيجة اطلاع لا بأس به على أدبيات تنظيم الدعوة، والإعجاب بما تطرحه وتقترحه، والميل إلى موافقتها في رؤيتها وتحليلاتها وتقديراتها.

ويلعب إعلام الدعوة دورا أساسيا في هذه المسألة، إضافة إلى ألسنة الصدق من عامة أبناء الأمة، خاصة ممن يمتلك قدرا من النزاهة والموضوعية، فشهادتهم واعترافهم وإشادتهم، من أهم عوامل التعاطف الجماعي، فعامة الناس يحتاجون دوما إلى أناس يثقون فيهم ويستأنسون لأحكامهم وآرائهم، وهذا ما ينبغي للدعوة ألا تغفل عنه، أو تبخس من أهميته، زهدا واستغناءً، فكل ما ينفع الدعوة في سيرها مطلوب، وإنَّ كَسْبَ فئة من أهل النخبة، كي تشهد شهادة الحق، وتدلي برأيها المسموع في حق الدعوة وأهلها، لهو أمر مهم لتعطيف أفئدة الناس، إضافة إلى الصدى الأخلاقي والمبدئي للأفراد والمجموعات، وقوة مواقف التنظيم ولزومه الحق حيثما دار.

إن الأمر الأعظم في تعطيف الناس، هو توفيق الله تعالى، ودرجة ربانية القيادة وسلوكها الإحسانيّ ونموذجيتها، إضافة إلى صدق الأعضاء وصفاء سريرتهم مع مولاهم، فهو الذي يقبل من يشاء وينشر القبول في الأرض لمن يريد، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله تعالى إذا أحبَّ عبدا دعا جبريل، فقال: إني أحبُّ فلانا فَأَحْبِبْهُ، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه. فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، ثم توضع له البغضاء في الأرض” 1.

فالعامل الحاسم، والأمر الأساسي، هو السعي لنيل حب الله تعالى عبر المسارعة في مرضاته، وحب أهل محبته وقربه، ولزوم حسن صحبتهم وتعظيمهم، حتى يفتح الفتاح من كرمه قلب العبد لمحبته، فيحوز القبول، وتهفو إليه الأفئدة، ولذلك كان من دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام، أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى أهل بيته الذين أسكنهم في واد غير ذي زرع.

فليس القَبول المطلوب إذًا صِيتَ ذِكْرٍ مرجُوٍّ ولا صدى سمعةٍ مشتهاة، تنتفش النفس بنيلِهِما، عبر حيازة الإعجاب ونيل الإطراء واستجلاب الأضواء، فتتضخم وتركب عُجْبَها وتيْهَها وكبرياءَها، فتلك طريق الرياء والكبر والغرور، وهي طريق المقت والسخط والخسران والعياذ بالله، وإنما القبول المطلوب، ذلك الذي يزيد المرء تواضعا وخوفا من الله تعالى، وحياءً منه وطمعا في مزيد فضله ودوامه،  إحساسا بعدم الاستحقاق، وبالعجز عن الشكر، وظنّا بالنفس كل الظنون، ذلك القبول الذي يدفع إلى مزيد صدق وانطراح بين يدي الكريم المتفضل، أن يتم نعمته ويحفظها من الزوال، ويجعلها مطية قرب وسبيل نجاة وفوز.

وليس القبول إلا جسرا مهدّه تعالى لتسير عبره إلى قلوب الناس، داعيا إلى الله تعالى على بصيرة، قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[سورة يوسف، الآية: 108]. ولذلك، فإن من أعظم أبواب التعطيف، طرق باب المولى عزّ وجل، فهو الذي بيده قلوب العباد، يقلّبها كيف يشاء سبحانه، وكم من دعوة اخترقت سجوف الغيب وكانت أبلغ من كل سعي أو سبب، باركها الله فألانت قلوبا كانت إلى صلابة الحديد وقسوته أقرب، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[سورة البقرة، الآية: 74].

ومن سبل طرق باب المولى أيضا، إضافة إلى التبتل والدعاء واستمطار فضل الله ورحمته، بذل الوسع في إبداع الأسباب، وتزيين سلعة الله تعالى، وحسن تسويقها، وعرضها في كل فرصة وحين، وتوظيف كل وسائل العصر وأدواته وتقنياته، بالنباهة اللازمة، والتلطّف المطلوب، والتُّؤدة والرفق والرحمة، فرُبّ كلمة لطيفة حانية تتسرّب كما يتسرّب الماء إلى حيث لا يصل الجهد ولا الحيلة ولا التخطيط العقلاني، ورُبّ خُلُق رفيع يعدل آلاف الكلمات، ورُبّ موقفِ حقٍّ يوقظ فِطَرَ الخلق ويحييها، كما يحيي المطر الأرضَ الموات.

لكنك لست وحدك في الميدان، تريد تزيينَ دعوتك بـ “ادّعائك”، وعرض “بضاعتها” بين البضائع، فيعترضك أمران وجب التنبُّه إليهما، الأمر الأول، أن هناك من يعمل بالليل والنهار كي يسوِّدَ سيرتك، ويعكّرَ صفحتك، وينسب إليك كل شر وسوء، ويعمل عمل امرأة أبي لهب، فأي فجّ سلكته، إلا ووراءك من يسفّه ويكذّب ويزيّف ويرمي بكل تهمة ومنقصة، بل تسبقك الدعاية المضادة وتسمّم التربة، وتفسد الحرث والنسل.

هي سنة الله فيك وفيمن قبلك ومن بعدك، أن تتأدّب مع الخلق، وألَّا تعتدّ ب”ادعائك”، فإن كان ولا بد من عرضٍ للبضاعة، وتبيانٍ لفضلها وجمالها وصلاحيتها، فليكن تحدّثا بالنعمة، لا تزيّدا وتنطّعا، وَلْيَكُنِ الأدَبُ حاذيا ومصاحبا، فالنفوس تجفُلُ من التّعالُم والتحاذُق والأستاذية، إلا أن ينطقَ حال الصدق بما في الإناء من فيض علم وفهم، فذلك فضل الله الذي لا يحجبه حجاب. هذا الأمر الأول، أما الثاني، فهو الخضوع لقدر الله في خلقه وزمنه، فكل ما تزرعه الدعوة المضادة، ويبثُّهُ الشيطان وجندُه من زيغ وضلال وفساد، ليست سوى مجرد عنصر من عناصر الابتلاء، وعقبات جعلها الله امتحانا، يعبره الصادقون المُوفّقون، ويجعل أهل الدعوة ذلك العبور والاجتياز معيارا دعويا مهمّا لقياس حرارة الصدق وحجم الشوق ودرجة الرجولة الإيمانية المطلوبة.

فعلى قدر صعوبة العوائق والموانع والمطبّات، يصير اجتيازها ميزانا حقيقيا ينفع في معرفة معادن الوافدين على تنظيم الدعوة، المتقرّبين من صميم روحها وحركتها.

لكن التعطيف، ليس سلوة تقريض من قِبَل فرد أو أكثر، تنشرح به نفس الداعية وتنتشي فيكتفي، ولا منتهى أمله وعمله ونصب عينه وقلبه، إنه البداية فقط، إظهار الاستعداد والرغبة في انطلاقة جديدة، فآنئذ يبدأ التقريب من دوائر تنظيم الدعوة تهييئا للإدماج في المشروع والانخراط في تنظيمه العملي، بعد الاقتناع وإعطاء براهين الاستعداد.


[1] رواه البخاري، كتاب “بدء الخلق”، باب “ذكر الملائكة”، رقم الحديث: 3209.