ليس الحديث في مسألة إدماج المتعاطف من قبيل إفشاء الأسرار التنظيمية وكشف ما لا يليق بالدعوة كشفه، صحيح أن مراكز الأبحاث المحلية والعالمية المختلفة، وعلى رأسها من يكيد للحركة الإسلامية، حريصة على تتبع مختلف تطورات فكرها وتصوراتها، والاطلاع على صيغ اشتغالها وأدوات عملها، وخاصة معاييرها الحركية، وأشكال تدبيرها الفردي والمؤسساتي، ولكن لكلّ شغلُهُ الذي يجب أن يشغَلَه عمّا سواه، وما نَشْرُ منهاج العمل بكشفٍ لمستور، بل هو هجوم للأمام واقتحام للعقبة، بطرح خطّة العمل وإفشائها في عامّة أعضاء التنظيم وغيره من التنظيمات لضبط الوعي وحفظ اتجاه البوصلة.
فليست الحركة الإسلامية طارئة ولا لاجئة مبثوثة، بل هي ابنة تربتها وأمّتها، وهي تتحرك داخل المياه المباركة لدين هذه الأمة، رغم اندراس العديد من شعائره بفعل الاستبداد، وانطماس الكثير من أثره في الناس، بفعل فقه الانحباس، والتمكين لدعوات الوسواس الخناس. ذلك، وليعلم أيضا المتتبعون والمهتمون، من الباحثين والإعلاميين، وسائر أهل العلم والدعوة، طبيعة التفكير، وقواعد العمل، ومبادئ الاشتغال، استجلاءً للغموض وطلبا للوضوح، وتفويتا لفرص التدليس والعبث بالرؤية والتصور والمسار.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، جعل التفكير في الدعوة وهمومها ومنهاجها وأساليبها وإبداعاتها، من صميم اهتمامات المشتغلين في حقل الدعوة، توسيعا لقاعدة المتصدين لهذا الفرع من علوم الدعوة، وهو مما ينبغي إشاعته في الناس عامّة، تيسيرا لحسن الاستيعاب والتواصل، وتعميما للفائدة وتقريبا للتصورات في المجال.
إن مرحلة الإدماج مرحلة متقدمة في العمل الدعوي، يكون الوارد بمقتضاها، قد تأهّل ليعلن ولاءه العملي لله ورسوله، واستعداده الكبير للتخلّص مما يشدّه إلى الأنانية القاعدة، ويكبّله عن العمل الجماعي المنضبط. هي ثمرة القلب إذا أن تعلن تحزُّبك لله، عاقدا العزم على السير بنظام الصف، قطعا لأواصر الكسل والعجز، والجبن والبخل، والإمّعية والانتظارية المتواكلة، واصلا لما أمر الله به أن يوصل، حبا لله وفي الله سبحانه، ودخولا في سرب خاص، ينضاف إلى الانتماء العام لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى أحد أقطارها وأقاليمها.
ذلك الانتماء الخاص، من داخل أمة الإسلام، هو عين ذلك الاستنهاض الرباني لطائفة من المؤمنين أن يكونوا أهل ريادة وإرشاد بعد تحصيل العلم والتربية على الدين الحق، يقول سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [سورة التوبة: 122].
هو انتماء خاصٌّ بشروط خاصّة كذلك، وكلّما ارتقى المرء في سلّم الدعوة ومسؤولياتها، زيدت التكاليف والشروط على قدر المسؤولية وعِظَمِ شأنها، ولذلك كان لا بد من ضوابط تحكم إدماج العضو في جماعة الدعوة وتنظيمها، حتى يكون للعمل معنى وجدوى، وحتى لا تنقض الخطوةُ أختَها التي سبقتها، بل تبني عليها وتراكِمُ وتُجوِّدُ وترتقي.
وإن من ضوابط الإدماج بعد إعلان النية وإبراز صدقها بالعمل والسعي والتأهّب، ضرورة حسم مسألة التصوّر، خاصة في بعض قضاياه التي يجب إحكامها، ولا ينبغي أن يُفهَم من هذا الأمر تشديدٌ وتحريضٌ على البعد الفكري والمبالغة في اشتراطاته، بل يلزم الحد الأدنى الذي يَسْلَمُ فيه التصوُّر من مطبّات الانحراف والاختلاط والتشوُّش، اتفاقا على التشخيص، وعلى خطة العلاج، ووسائله، خاصة التربوية منها، فإن الطّعن في الأطبّاء والتشكيك فيهم، مما ينقض وصفاتهم نقضا تاما.
هذا، مع التأكيد على الطابع السلمي الرفيق للدعوة وأدواتها وأساليبها، أصالة وإيمانا، وليس تقيَّةً وادعاءً ومناورة، مع واجب لزوم المحجة اللّاحبة في كراهية الظلم والسعي اللّازم لتقويضه وعدم مهادنته والسكوت عنه، وإلا فهي مقدّمة للدخول تحت إبطه والركون إليه، وفي التدرّج حكمة ومرونة هي من خصائص سلوك المؤمنين وسنة نبيهم عليه السلام.
إن البرهان العملي السلوكي، هو ما ينبغي التأكُّد من سلامته ومتانته، فإن الألسن بارعة في تنميق الكلام وتقعيره، وإن عقالَ الكلام فِعْلُهُ وإتيانُه في الميدان، وإلا فهي شعارات جوفاء وادعاءات، ومجلبة لمقت الله عز وجل، أعاذنا الله من سبيلها، يقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف: 3-2].
وليكن الاحترام ولزوم الأدب معيارا، يلتقطه الفطناء من إشارات حسن الإنصات، وحسن الحديث، ولباقة التصرفات، وسائر المؤشرات التي لا تخفى، خاصة في لحظات الشدة والغضب والحرج، فإن النفوس حينها تخرج من تطبُّعِها وتبرز في صفاتها الأصيلة الحقيقية.
وقد تأخذ الحماسة بالألباب فنتسرّع في الإدماج فرحا بالوارد، ونحاول أن نقفز به المراحل ضربة لازب، وهو أمر ينبغي التنبّه إليه، والحذر من تعميمه، فإن أغلب النفوس، ينبغي أن يحصل انتقالها بالتدريج من حال إلى حال، وهي أسرع في العودة والنكوص، ما لم يتم إحكام الخطوات، وتثبيت القلوب بما يثبت به الله القلوب سبحانه وتعالى. ولذلك، لا بأس أن نذكّر بضرورة إحكام أساسيات التصور، واليقظة إزاء ضرورة ربط العلم بالعمل، مع التعويل على البعد السلوكي العملي وإشاراته، والله خير حفظا.
وليكن آخر ما يجب التأكيد عليه في مسألة الإدماج، الحذر من الاضطرابات النفسية والعقلية لدى الوارد، فإن الحياة المعاصرة طاحونة قاسية تخلّف أعطابا حقيقية في النفوس والعقول، فليكن الحرص على دقة الملاحظة وسلامة الحجة، واعتدال الموقف، مقياسا، على ألا يتم الاكتفاء ببضع لقاءات نحسَبُها كافية للرّصد والملاحظة والمعايشة. ولذلك كانت الأنشطة الموازية والأسفار والمبيت… وسائل ناجعة فيما نرومه من اختيار وتدقيق، كل ذلك حرصا على الدعوة أن نستجلب إليها، بهداية المولى الكريم وتوفيقه، العناصرَ الفعالة السليمة، القابلة للتربية والتعلّم، المستعدة للارتقاء الروحي والعلمي والأخلاقي والمهاري.
فلنحذَر من الطباع الحادة، كالغضب الشديد والخوف الشديد، ومن غياب صفاء المعاملات المادية، وكثرة الشُّبَهِ الأخلاقية، والبخل الشديد، وبعض السوابق المانعة. وليكن اشتراطنا الأول، السلامة من طوامّ السلوك وعوائقه الحاجبة، كعقوق الوالدين، وتعدُّد الاستهواءات في الانتماء وإعطاء الولاء، فإن التخليط في السلوك مضيعة للسالك، هذا إضافة إلى الحذر ممن يأتي مدسوسا، بنيّة الشّرّ واستعلام السوء إذايةً ووقيعةً وعملا على نسف العمل من أساسه.
وفي الختام، وجب التنبيه إلى أن تعدّد الاشتراطات، ليس مسألة لازمة في كل حين ومتعيّنة في كل حالة، فإن من الأقدار والأحداث ما يسرّع الخطى، وإن من الناس من يطوي الله تعالى لهم المراحل طيّا، ولأهل الدّعوة المشتغلين في الميدان سلطة التقدير، حسب خصوصيات المكان والزمان، ولكن أساسيات الاندماج في جسم الدعوة لا ينبغي التنازل عليها بأية حال من الأحوال، والمحاذير تظل قائمة، يقظَةً وحِرْصًا.
اللهم اجعلنا جسورا لخلقك إليك.