كلمة القلب ذكرت في القرآن ثنتين وعشرين ومائة مرة في ثلاث وأربعين سورة.
فنجد القلب يدل على معنى نستعمل في التعبير عنه في عصرنا كلمة العقل، العقل الذي يفكر ويدبر شؤون الدنيا ويتأمل في كل ما يتطلب تفكيرا وتدبيرا، وذلك في مثل قوله تعالى: وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [التوبة: من الآية 87 والمنافقون: من الآية 3]، وقوله عز من قائل: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه [الأنعام: من الآية 25]، وقوله عز من قائل: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب [ق: 37]. فالقلب هنا كيان يتذكر ويفقه. فإذا ختم الله عز وجل على قلوب أي عقول من غضب عليهم انغلق القلب العاقل عن الفهم وانعجمت عليه المعاني وانسدت عنه أبواب الفهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل عن القوم المغضوب عليهم: لهم قلوب لا يفقهون بها [الأعراف: 179]. ويقول عز وجل عمن عميت بصائرهم أي تعطلت عقولهم وعجزت عن الفهم والادكار: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [الحج: 46].
لا حاجة بنا إلى مضغ الكلام عن ماهية العقل ووظيفة القلب المادي الصنوبري الذي في الصدور، فليس ذلك موضوعنا، بل نمضي قدما لنستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن فلاح من أعطاه الله قلبا واعيا.
قال صلى الله عليه وسلم: “قد أفلح من جعل قلبه واعيا”.
وتطلق كلمة القلب على العقل في كلام العرب وأمثلتهم، فيقولون تأنيبا لرجل طائش: مالك قلب، وللغافل: ما قلبك معك، وللناسي: أين ذهب قلبك؟ وفي كل هذه النصوص تحمل كلمة العقل معاني الفهم والوعي والعلم والإدراك. وبوب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه قال: “المعرفة فعل القلب” لقوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم [البقرة: 225].
ويؤخذ من لفظ القلب معنى التقلب في الأحوال والخواطر والأفكار والآراء، وذلك ما يدل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: “أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”. إنها إذن خواطر يتخيل فيها العقل البشري ألوانا وأشكالا من النعيم. ينتقل من لون إلى لون ومن شكل إلى شكل كما يليق بنعيم الجنة الذي لا ملل منه ولا يشوبه كدر.
ونسأل الراغب الإصفهاني رحمه الله فيقول في مادة (ق ل ب): “قلب الشيء تصريفه وصرفه عن وجه إلى وجه كقلب الثوب. وقلب الإنسان أي صرفه عن طريقته. قال تعالى: ثم إليه تقلبون. والانقلاب: الانصراف، قال تعالى: انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا.
وقال سبحانه: إنا إلى ربنا منقلبون؛ أي راجعون. ذاك ما حكاه الله عز وجل من قول سحرة فرعون لما هددهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل من خلاف والصلب إن لم يكفروا بموسى عليه السلام. رفضوا الانصياع لفرعون وأعرضوا عنه لإيمانهم بما أخبرهم موسى عليه السلام أنهم إلى ربهم راجعون بعد الموت، فهان عليهم ما يصيبهم في الدنيا من ظلم وعذاب وقد تنورت قلوبهم بالإيمان، فهم يرجون بعد البعثة الجزاء الأوفى من الله عز وجل.
يعبر العرب عن الرجوع إلى مساكنهم بعد سفر بفعل “انقلب” وذلك معنى الكلمة في قول الله عز وجل عن المنافقين الذين يستهزؤون ويستسخرون بالمؤمنين إذا رجعوا من نواديهم واجتماعاتهم التي يتفكهون فيها إلى بيوتهم: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين.
قال الراغب الإصفهاني رحمه الله: “وقلب الإنسان قيل سمي به لكثرة تقلبه. ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة وغير ذلك”.
ونجد في الحديث تشبيها لطيفا للقلب وسرعة تقلبه فيما قاله صلى الله عليه وسلم: “إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلقت في أصل شجرة يقلبها الريح ظهرا لبطن”.
وكما يتقلب قلب المومن في أحوال الرضا والغضب والخواطر والإدراكات والعواطف من محبة وكراهية وانجذاب أو إجفال، فإن لقلب المومن حاسة تنفعل مع ما تشعه قلوب جلسائه، وكأن للقلب حاسة شم ولإشعاعات قلوب الجلساء ريحا وعبيرا.
ذلك ما نقرأه في حديث أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه رواية قال: “المومن للمومن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ومثل الجليس الصالح مثل العطار إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه ومثل الجليس السوء مثل الكير إن لم يحرقك نالك من شرره”.
إن خواطر قلوب العباد تعكس ما يغلب على ضمائرهم من ذكريات لمجالس طابت سرائره فاستنشقت ذاكرة جليسه الطيب ولطائف الروح وأنفاس الطهر، أو كان جليس الأشرار نافخي الكير فتلوثت خياشيم قلبه بدخان القيل والقال ومقالات السوء والغيبة والنميمة، كما هو شأن مجالس الغافلين والعابثين.
خواطر تهدي وأخرى تردي.
ويفصل القشيري رحمه الله في رسالته الخواطر فيقول: والخواطر خطابات ترد على الضمائر فقد يكون الخطاب بإلقاء ملك أو إلقاء شيطان أو أحاديث نفس أو من الحق سبحانه. “فإذا كان من الملك فهو الإلهام، وإذا كان من كبر النفس قيل له الهواجس، وإذا كان من الشيطان فهو الوسواس، وإذا كان من الله سبحانه وكان إلقاؤه في القلب فهو خاطر حق” [الرسالة القشيرية، ص: 83، وما بعدها].
كنا قبل أن نجلس إلى الأستاذ القشيري رحمه الله ونستمع إلى حكمه نقسم الخواطر من حيث طبيعتها ومنزلتها في سلم الأخلاق من خسيس وسفساف إلى طيب مفيد يزيدنا علما ويشحذ في قلوبنا حاسة التقوى وإرادة الخير. فلما حضرنا مقالة الأستاذ رحمه الله وجدناه يهتم بمصدر الخواطر مستغنيا بذلك عن الحكم عليها بالصحة وبالفساد، ذلك أنه لا يصدر من المعين الطيب إلا ورد طاهر ولا يسيل من بؤر السوء إلا الخبيث المرذول.
ويأتي القلب في القرآن الكريم بمعنى الروح والنفس، أي في الكيان الذي تنتظم فيه الانفعالات الوجدانية، مثلا عندما يفجؤ الموت الإنسان يداخله الرعب من هول ما جاءه، وعندما تبدل الأرض غير الأرض والسموات يشتد فزع الخلق، ويحذرهم الله عز وجل من ذلك المشهد المهول عندما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين.
ويشتد فزع الناس في الدنيا إذا التقى الجمعان في ساحة الوغى كما وقع للمسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، فيصف الله تعالى موقف المسلمين حين زاغت منهم الأبصار ودخل الرعب قلوب بعضهم قائلا سبحانه: وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. وهو عبارة عن اختناق النفوس وانزعاجها الشديد لما يشاهدونه من تحزب القبائل العربية عليهم وتحالفهم مع اليهود لمناهضة المسلمين واستئصال شأفتهم، حتى إن ثقة بعضهم بنصر الله تزلزلت وساء ظن بعضهم ببعض كما قال الله تعالى في سياق هذه الآيات الكريمات.
وتمتد دلالة القلب في القرآن لتشمل الانفعالات القوية كما قال تعالى يطمئن قلوب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالإيمان من حيث يلقي الرعب في قلوب أعدائهم: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وقال تعالى: ولتطمئن به قلوبكم، وقال سبحانه وتعالى: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب، وقال تعالى: ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم.
وكما تحتل الدلالات الوجدانية لكلمة قلب مساحة واسعة، فقد تدل أحيانا على ما يقلبه الناس في رؤوسهم من أفكار وظنون وتخمينات وآراء، كمثل قوله تعالى عن يهود خيبر المتحصنين في آطامهم: تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى. ذلك حال من كفر بالله عز وجل واعتمد على مكره وكيده وحصون بناها، أما المؤمنون فإن الله عز وجل ينصرهم على أعدائهم فيكون حصنهم الحصين هو الألفة بينهم والمحبة الرابطة بين أهل الإيمان وجوبا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تومنوا ولا تومنوا حتى تحابوا”. وقال عز وجل في حقهم: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. نالوا تلك المرتبة السامية بعد أن تخلوا عن ما كان يربطهم في جاهليتهم من الأواصر القبلية والعشائرية. ذلك ما وصفه الله عز وجل في قوله تعالى: لا تجد قوما يومنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.
انفصلوا عن الروابط الأرضية وتطلعت قلوبهم إلى ما عند الله عز وجل وما أعلمهم في كتابه العزيز على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من جميل ما ادخره لهم في أخراهم.
إن هذه المضغة اللحمية التي في الصدور تنطوي على سر من أسرار الله عز وجل، ففيها البصيرة التي يميط الله عز وجل عنها غطاء الغفلة فتبصر الحق حقا وتتبعه، كما يطمس على قلوب قوم فإذا هم في خوض يعمهون ويلعبون.
إن القلب اسم لكل ما يجيش في باطن الإنسان من قابليات لتلقي أنوار الإيمان والشوق إلى الله عز وجل وصفاء السريرة. وإلى هذه المعاني يرجع قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”.