خلق الله عز وجل أبانا آدم وأمنا حواء وأسكنهما فسيح جناته، ثم هبطا منها فوعدهما الله سبحانه بالرجوع إليها وصالحي ذريتهما. قال الله عز وجل: وَلَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍۢ [البقرة، الآية 35]، وعدٌ ندرك من خلاله أن المؤمن لم يخلق للعدم والفناء وإنما خلق للخلود والبقاء، لكنه ينتقل من دار إلى دار؛ من دار الدنيا إلى دار الآخرة، انتقال تكرهه النفس وتجزع منه وتهابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن مثل المؤمن في الدنيا كمثل الجنين في بطن أمه إذا خرج من بطنها بكى على مخرجه حتى إذا رأى الضوء ووُضع لم يحب أن يرجع إلى مكانه. وكذلك المؤمن يجزع من الموت فإذا أفضى إلى ربه لم يحب أن يرجع إلى الدنيا كما لا يحب الجنين أن يرجع إلى بطن أمه” [أخرجه الإمام ابن أبي الدنيا رحمه الله].
سعة رحمة الله عز وجل لا مثيل لها
إن نسبة سعة الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى الرحم الذي هو محل الضيق والظلمة، اعتاده الجنين وألفه حتى إذا خرج منه إلى وسع الدنيا ورحبها كره أن يرجع إلى مكانه الذي كان فيه، وكذلك المؤمن يجزع من الموت بداية لكن ما أن يشهد سعة رحمة الله عز وجل وما أعده له من نعيم وروح الآخرة حتى يرضى فلا يسره أن يرجع إلى تلك الدار الضيقة، عن سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما على الأرض من نفس تموت ولها عند الله خير تحب أن ترجع إليكم ولها نعيم الدنيا وما فيها” [أخرجه الإمام النسائي رحمه الله].
الدنيا سجن المؤمن والموت تحفته
روى الإمام ابن المبارك رحمه الله عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدنيا جنة الكافر وسجن المومن، وإنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه كمثل رجل كان في سجن فأخرج منه فجعل يتقلب ويتفسح فيها”. الدنيا سجن المومن لما يعانيه من فتن الدنيا وتقلب أحوالها، ومن مقاساة أعدى أعدائه؛ نفسه التي بين جنبيه، ورياضة شهواته ومدافعة شيطانه، فكان الموت الخلاص له من هذا العناء.
قال الشاعر:
جزى الله عنا الموت خيرا ** فإنه أبر من كل بر وألطف
يعجل تخليص النفوس من الأدنى ** ويدني إلى الدار التي هي أشرف
فشرف المؤمن جوار الرحمن مع النبيئين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. والموت كما قال صلى الله عليه وسلم “تحفة وريحانة وغنيمة المؤمن”، فهو القنطرة التي تفسح اللقاء بالله عز وجل والتنعم بنعيم جناته، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.. ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت يارسول الله كلنا نكره الموت! قال: ليس ذلك! ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه” [رواه الشيخان رضي الله عنهما]. كرم إذن من الله عز وجل أن يحب لقاء عبده المؤمن حين يحب عبده لقاءه سبحانه وتعالى.
قال سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما: “لا راحة للمؤمن إلا في لقاء الله، ومن كانت راحته في لقاء الله تعالى فيوم الموت يوم سروره وفرحه وأمنه وعزه وشرفه”.
اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك.