في الإسلام وفي ظل تدبير الشأن الخاص والعام، تغدو المرأة شريكا طبيعيا لازما وفاعلا حقيقيا، ومؤثرا إيجابيا، سواء تعلق الأمر بالأسرة أم بالحي أم بالقرية أم بالمدينة، في المنزل أم خارجه، فهي نصف المجتمع حسب القول المشهور، لكنها في الواقع أساس هذا المجتمع وظله الوارف الذي يحتضن بحق ما عداه.
إن مشاركة المرأة للرجل في الحياة ومساندتها له تنطلق من أساس شرعي ومن منطلق طبيعي، كون الإسلام؛ هذا الدين العظيم كرم المرأة وأعطاها مكانتها داخل المجتمع، تلك المكانة التي تليق بركن من أهم الأركان، وأساس من أثبت الأسس، وأصل من أوثق الأصول، لا تتحقق الحياة السليمة والطبيعية إلا بوجودها أو عدمه.
والمقصود بالوجود بالنسبة للمرأة ليس الصورة والشكل اللذين يهيمنان على المخيال العام للناس، بل الوجود الفعلي الملموس من خلال المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وجود يلتحم فيه الذاتي بالموضوعي، الواقعي بالتاريخي، السياسي بالديني.
أسس المشاركة والتكامل
1- الأساس الشرعي
لقد أولى شرع الإسلام للمرأة اهتماما خاصا نظرا لخطورة الدور الذي تضطلع به، ولفاعلية المهمة التي تناط بها في الحياة. فهي ليست مجرد وعاء للمتعة أو آلة للخدمة أو وسيلة للزينة أو واجهة للمباهاة، إنما هي هذا الكائن المكرم الذي خلقه الله للتعاون بينها وبين الرجل في إدارة شؤون الحياة، بما يضمن الاستقرار النفسي والمادي والروحي والاجتماعي داخل المجتمع. ولذلك كانت المرأة محط اهتمام الشرع الحكيم وموضع أوامره ونواهيه في كل مل يتعلق بالتنشئة والبناء والتأهيل، وتحديد المسؤوليات، وضمان الحقوق والحريات.
وقد أمر الله تعالى المرأة بما أمر به الرجل، وأوجب لها حقوقا كما أوجبها للرجل، وفرض عليها التزامات كما فرضها على الرجل، وميزها عنه بأمور هي بها أولى نظرا لطبيعتها وحسن تكوينها مقارنة مع الرجل في مواطن أخرى هو بها أولى. وهذا لا ينتقص من قيمتها ولا من قيمته، فمبدأ التكامل بينهما هو الأصل بالنظر إلى هذه الفوارق الطبيعية. يقول الله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[1].
يقول الإمام المجدد رحمه الله: “الحياة الدنيا دار بلاء، يخفف وطأة البلاء تعاون المرأة والرجل المومنين على الصمود أمام الشدائد وعلى اقتحام العقبة بالعدل في الغُنْم والغُرم، وبالإحسان والبر والتسامح والإسعاف الحنون والمودة والرحمة. تشد المرأة عضُدَ الرجل وإن اقتضى الأمر تنازلها عن بعض حقوقها تكرما منها، ويعترف الرجل بفضلها فيسابقها إلى الإحسان. (إذا أنس الرجل الزوج أن المرأة الزوج ركن شديد يعتمد عليه، واطمأنت هي إلى أن رفيق الرحلة ثقة وحضن أمان فقد تأسست اللبنة الأم في البناء الاجتماعي) [2].
ويقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[3].
تسوية بين الذكر والأنثى في جزاء الأعمال بشرط الإيمان. أعلاهما إيمانا أصلحهما عملا. وإنما يتقبل الله من المتقين” [4].
هذا التكامل بينهما يبني آخرتهما ويؤسس لحياة طيبة عند الحق سبحانه، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عجب للأنصارية والأنصاري اللذين أطعما الضيف عَشاء صبيتهما وأطفآ المصباح ليظن الضيف أنهما يؤاكلانه، ليشبع هو ولا ينقُصا بمؤاكلته من الطعام القليل، وقال: “لقد عجب الله عز وجل -أو ضحك- من فلان وفلانة” [5].
يقول الإمام المجدد رحمه الله: “عجَبٌ من امرأة وزوجها يَجُوعان ويُجوِّعان الصبية لِيَطْعَم الضيف، ثم لا يكتفيان بهذا الإيثار العجيب حتى يحتالا على الضيف. احتالا لآخرتهما فعجب ربنا من فلان وفلانة. (كانت المومنة الصالحة تقف في درجة الرجل لكي يسمو بنفسه فلا يتدحرج في خطوات الشيطان. كانت الواحدة منهن تخاف الله وترجو لقاء الله فتقول: يا أبا فلان! أطعمنا حلالا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار وغضب الجبار) [6].
كما يتجلى هذا التكامل وهذه المشاركة في كل المجالات والأحوال، وقد أعطت الصحابيات المثال في ذلك فقد كن مساندات ومانعات للرجل عن التدحرج. بل ومنهن من تقتحم العقبة لا تنتظر الرجل أن يسحبها معه كما يُسحب التابع. كم من صحابية أسلمت وتخلت عن المشرك الزوج، والمشرك الأب، والمشركة الأم، والمشركين العشيرة والقوم والحماية والرزق. كم منهن هاجرن إلى الله ورسوله ابتداء من ذاتهن وهمتهن ومبادرتهن” [7].
2- الأساس الطبيعي
تفرض الطبيعة التي أوجد الله عليها الخلق أن التكامل بين الذكور وبين الإناث هو الضابط في الأمر، وهذا ما يميز الحيوان الأليف والوحش والطير الداجن والكاسر والإنسان، وما تشهده الحياة الطبيعية يؤكد هذا التلازم بينهما على حد يتكرر ويطرد، ولا يجوز فيه الاستثناء بحال.
وعلى هذا الأساس فإن كل المخلوقات وبالنظر إلى ما يقع من تغيرات وتحولات في الحياة الطبيعية تتعاون فيما بينها وتتشارك لتجاوز تلك التغيرات والتغلب على تلك التحولات، وما ذلك إلا لفطرة في الخلق تقتضي التعاون والمساندة والتكامل بما يضمن الاستقرار والعيش.
وهي كذلك تتطلب المشاركة والتعاون بما يؤسس لمجتمع يرسم معالم الحياة المطمئنة السعيدة في الدنيا تعقبها سعادة وفوز في الآخرة بالنسبة للإنسان المؤمن والمؤمنة، لأن المهتم بمصيره عند ربه إنما يضع في الاعتبار ما يصلح به شأنه ويلبي تطلعه لرضى ربه.
وقد هيأ المولى تعالى للإنسان فضلا عن باقي المخلوقات عقلا يميز به ويستنير ويهتدي به ويسترشد، فكان له من التكليف ما رفضته الجبال والسموات، وأشفقت من تحمله لعظم الأمر وشدته. والمرأة في تحملها لهذا العظيم الشديد أخت للرجل نشأت معه تعاني وتحتمل وتصبر وتصابر في طلب دائم جنبا إلى جنب مع الرجل لتحقيق الأماني وتلبية المتطلبات.
والخلاصة الجامعة هي أن كلا من الرجل والمرأة قد احتملا أمورا استلزمت منهما مشاركة وتعاونا ومساندة في السراء والضراء، في الحل والسفر، في الإقبال والإدبار، في السلم والحرب. ولا يسعهما إلا تكملة هذا الطريق الشاق معا وبكل معاني المودة والتقدير والاعتراف المتبادل كي يرسما معالم الحياة السعيدة؛ تنقلها الأجيال درسا نيّرا في افتخار جيلا بعد جيل.
[1] سورة التوبة: 72.
[2] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 1/ 216.
[3] سورة النحل: 97.
[4] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 1/ 224.
[5] رواه البخاري.
[6] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 1/ 79.
[7] ياسين عبد السلام، تنوير المومنات، 1/ 79.