إن حدث السابع من أكتوبر كبير جدا، وأمره عظيم جلل، سواء من حيث ضخامتُه وقوَّتُه من قِبَل أمة ضعيفة منهكة مفككة، بله من منظمة محاصرة مخنوقة مستضعفة، أو من حيث جرأتُه الكبيرة على تحدي طاغوت العصر، أو من حيث نتائجُه التي باتت في حكم المؤكد أنها ستكون أكبر من كل متوقع منتظر، وأنها ستشكل لا محالة منعطفا كبيرا، ليس للقضية الفلـسـطيـنـيـة فقط، وإنما للأمة ككل، بل للعالم أجمع.
سيظل التيه قائما، بالنسبة لكل من صار يعتبر الضعف العربي حتمية تاريخية قائمة لن ترتفع، ولمن ترسّخ في ذهنه أن الغرب متقدم مسيطر أقوى على الدوام، بخصائص أصلية راسخة تفتقدها الأمة وتعوز أفرادها. وسيظل الأمر مُشَوِّشا للغاية، ومُحَيٍّرا بشكل كبير، حتى لمن ألف الاطلاع على الأحداث الكبرى وقراءة التاريخ ومنعطفاته، ذلك أن القراءةَ والنظرَ من بعيد شيء، وغشيانَ التجربة وشهودَها الواقعي شيء آخر تماما.
بالنسبة للفئة الأولى، ستبحث جاهدة عن أية تفسيرات، وإن بدت جد متهافتة، لفهم الحدث وجعله قابلا للإدراك ضمن صيرورة الوعي والزمن، ولكنها لن تغادر ثابتا محوريا، هو صنمية الغرب ومركزيته الوثوقية، بحيث يوشك أن يصير إلها حقيقيا في وعيها، إذ تعتبره المحرك الأعمق، والمحيط بكل شيء، ومن يقف وراء كل حركة أو نأمة في الكون، وهكذا يصير الأمر برمته مجرّد مؤامرة كونية، يدبّرها دهاة الاستخبارات الإمبريالية في الدهاليز المظلمة ويتحكّمون في خيوطها ويخضع لمكرها العالم أجمع.
وبهذا المعنى، يمكن اعتبار أية مقاومة، عبر التاريخ، مجرد حركة عميلة نشأت -أصلا- بإيعاز وتدبير استعماري محض، بغية مضاعفة الهجوم وتسويغ المزيد من الدموية. وقد يتعلّل التحليل، بأحداث ملتبسة هنا أو هناك، للتشكيك في كل فعل أصيل، أو قدرة تحرر يمكن أن تمتلكها حركة نابعة من صميم إرادة الأمة ونبضها.
إنه تحليل، مهما توسّل بـ “بريق” نظرية المؤامرة، يبقى في المحصِّلة، رهين منطق يكرّس الغرب إلها محيطا بكل شيء، وقادرا على كل شيء، ولا تتحرك ذرة في الكون إلا بإذنه، ومستندا، بالبرهان العكسي، إلى اعتقاد غير معلن، مفاده استحالة استقلالية أي فعل، وأيّ قرار داخلي، واستحالة أية إمكانية لنهوض ذاتي من جديد بالتّبَع، وهو أمر يقف ضد منطق التاريخ وسنة التدافع البشري مذ بدأ فوق البسيطة.
ويمكن أن نميّز ضمن أنصار هذا التحليل، بين يائسين مُحبَطين، من ضحايا تخلّف الأمة وانحطاطها، يعبِّرون عن سوء الحال صادقين، يُرجى لهم نهوض واستقامة فهم وصلاح حال، وبين فئة صارت تؤمن بأنها مجرّد ظل للمركزية الغربية الاستعمارية، وألّا حل هناك إلا باتباع الضّب الغربي “حذو النّعل بالنّعل” كما قالت العرب قديما، فَهُمْ على ذلك مناوئين لأصولهم، مُحادّين لمنابع عقيدتهم وثقافتهم، واضحين في ذلك مجاهرين متوقّحين، أو متدرّجين ماهرين في بث السموم بالقدر المناسب الماكر كما هو شأن المنافقين الحاذقين، وقد اقتطع الغرب من الفئة الثالثة أسماءَ وألقابًا وصفاتٍ، لتكون عيونا علينا، وحِرابا في قلب الأمة، أو رصاصات غدر رضيت بالثمن البخس فباعت دينَها وكرامتَها وتاجرتْ في أمّتها، فبئس الحال وبئس المصير.
أما بالنسبة إلى الفئة الثانية، من أَلِفَتِ النّظرَ في التاريخ، والتعاطي مع الأحداث الكبرى التي تعرفها الأمم، وخاصة من نَظَرَ في سُنَّة سقوط الحضارات وقيام أخرى، سيدرك، أن الأمور ممكنة نظريا على الأقل، وأن هذه الأمة ليست بدعا من الأمم، وأنه لا قوة تدوم إلى الأبد، وأن أية قوة متغطرسة ظالمة، تحمل في أحشائها، إضافة إلى العوامل الخارجية الموضوعية، بذور التحلّل والتفكّك والضعف فالانهيار.
طبعا، قد يحجبُ النظرَ المتبصِّرَ، صدمةُ ما يُرَى من حجم الدمار، والقتل المنقول مباشرة على الهواء في ظل التطور الإعلامي الهائل، وما يطالعه من الأثمان الباهضة المؤدّاة أمام سَفَه الحكام، من البشر والحجر والشجر، خاصة في ظل تطورات وسائل التدمير والإبادة، وتنوعها الشيطاني المخيف. وهو الثمن الذي يكاد ينسينا ما قدمته الشعوب، في لحظات تاريخية مفصلية، من أثمان، ومئات آلاف الشـهـداء والأسرى والجرحى والمنفيين المُهَجَّرين، في سبيل حريتها واستقلالها وكرامتها. وهذا حال أغلب الناس في تعاطيهم مع ما يحدث، يفتّ في عضدهم ما يرون، ويضعِفُ إيمانهم حجمُ ما يطّلعون عليه من مجــازر وأشلاء، حتى ليكادون أن يتشككوا في وجود رب عالِمٍ بما يحدث بيده مقاليد السموات والأرض.
وإن من الفتن ما يجعل الحليم حيرانا، وإن الاستيئاس طبيعة بشرية طالت حتى الأنبياء عليهم السلام في اللحظات الحرجة التي تبلغ فيها القلوبُ الحناجر، فتُطِلُّ الظُّنون مما سواهم، وقد تفعل الأفاعيل بأصحابها عافانا الله وإيّاكم، وهو أمر مقبول على العموم، ما تسارَعَ الرجوع إلى الرشد، وتنبّه المشدوه وثَبَتَ بتثبيت المولى الكريم للقلوب والعقول، وما آيات الثبات التي نراها من عموم شعبِ العِزَّة في أرض الرِّباط إلا دلالة فعل الله سبحانه وربطه على القلوب برباط الصبر والرضى والصمود.
أما بالنسبة، لمن يستند إلى ركن متين، ويؤمن بالوحي الكريم المُنَزَّل، والنبيِّ الأمين المُرْسَل صلى الله عليه وسلم، فإنه لن يتيه كثيرا، ما دام يملك الخبر الموحى به من السماء، خاصة في المحطات التاريخية الكبرى، مثل إخباره صلّى الله عليه وسلم بأن الخلافة بعده ثلاثون سنة فقط، كما روى عنه مولاه سفينة رضي الله عنه: “خلافةُ النُّبوَّةِ ثلاثون سنةً، ثم يُؤتي اللهُ الملكَ مَن يشاءُ”. وكما حقّب عليه الصلاة والسلام بعد ذلك انتقال الخلافة الراشدة إلى ملك عاض، فجبري، ثم بَشَّرَ بعودة الخلافة على منهاج النبوة تارة أخرى، ثم أحاديث عودة الدين إلى غربته، وأحاديث الشام، وبيت المقدس، إضافة إلى ما أخبر به الصادق المصدوق عليه السلام من أحداث بين يدي الساعة، نؤمن بها ونصدِّقُها ونفوّض شكلَ حدوثها وزمنَه إلى العليم الخبير سبحانه.
قلت، بالنسبة إلى المسلم، الذي يقرأ القرآن الكريم ويؤمن به ويصدق ربَّه فيما وعد، فإنه يدرك حتمية المواجهة مع لوثة الشر في العالم، سواء هؤلاء المعتدين على المسجد الأقـصـى المتجبّرين على خلق الله المعربدين على بني البشر ومنظماتهم الإنسانية وهيئاتهم الحقوقية وأحلافهم الآدمية، أو أولئك المستدَرجين ليكونوا جندا مجنَّدين في مملكة الدجّال قبيل الأحداث الجسام ونزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان.
وهذا ما لا يتعارض مع استنفاد الجهد في إعمال العقل والتفكير، وقراءة سنن الله في الاجتماع البشري ومقوماته، وركائز قيامه أو انهياره، بل يدعو إلى الإفادة من النتاج البشري في المجال، في إطار تراكم الخبرة الإنسانية المشتركة، مع الحرص على الإبداع والتجاوز، والتجذير اللازم، كل ذلك باليقظة التامة، والحذر الضروري أن تتعمّى الطريق على النظر، أو تنحرف البوصلة، أو يميل المسار وتزيغ الخطوات، فإذا بإرادة النهوض المتحرر، مجرد حركة هامشية تعيد إنتاج الأزمة وتزيد الطين بِلّة. ولذلك، يتعين على عقلاء الأمة أن يكونوا ربانييين ليقودوها إلى الوجهة الصائبة، فالقيادة المنصبغة بصبغة الله، الموفَّقَة بتوفيق الصِّدق معه، وبلزوم شِرعته ومنهاج نبيه، هي المؤهلة لقيادة الأمة إلى السيادة من جديد، وعدا من الله، ومن أصدق منه سبحانه؟!
ونحن نعتقد اعتقادا جازما بأن ما أخبر به المولى سبحانه حق لا مرية فيه، كما أن الجنة حق والنار حق، والبعث والنشر والحشر والحساب، وهو أمر ليس من قبيل الهروب إلى “الماورائيات” أو تعلق “المهزوم” بـ “أساطير” الانتصارات “الخيالية” التي لا تعبّر سوى عن “طفولة” الإنسان كما تتحذلق الفلسفة الوضعية الصنمية نكرانا وجحودا. بل إنه اعتقاد يتبعه عمل، ويقين يستلزم جهدا واستنفارا وتعبئة وسعيا دؤوبا، يعطي للإيمان معناه الحقيقيّ، وبعدَه الميدانيَّ الفعّال، وهو ما قام به ويقوم به رجال الله في أرض العزة والرباط بالتحديد. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
ستتيه عقول كثيرة، وستحتار أفئدة عديدة، وسيتلمَّس آخرون خطاهم تدريجيا كي يفهموا أن تعاقب الحضارات وسيادة الأمم سنة من سنن الله في كونه، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا، تلك هي النتائج الطبيعية لمنعطفات، تشكل صدمَةً للوعي، وكَيًّا حقيقيّا للفهم السُّكوني وبراديغماته العتيقة.
ذلك أن من الناس، من لا نشك في غيرتهم وصدق طَوِيَّتِهم، سيستغرقهم الوقت في التهمُّم بالفهم والاستيعاب ويستغنون به ويكتفون، عن القيام للعمل الجاد، وتمثيل الأمة في محطة حاسمة من محطات نهوضها، فيصيرون بذلك، من حيث شعروا أم لم يشعروا، عناصر تثبيط وتشكيك، وتشتيت للأفهام، وتهوين للعزائم والإرادات، عوض أن يكونوا دعامات وعي وشحذ همم وإضاءة طريق واستبانة مخاطر.
بينما الركب يمضي، والأمور بمآلاتها، نرجو ممن برى الخليقة وقدّر لها، أن يحسن عاقبتنا، ويجعلنا في الموقع الصحيح لسنة المدافعة، ولينظر أحدنا في أي جهة يدفع، أحسن الله خاتمتنا بالحسنى وجعلنا من أنصار الحق وأهله، ولولا دفاع الله الناسَ بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين.
د. عبد القادر الدحمني
23 غشت 2024م.