البطالة موضوع شائك، وغصة خانقة في حلق أي بلد، إذ إهمالها والسكوت عنها يزيد من حدتها وانتشارها بموازاة مشاكل أخرى ناتجة عن تشنج الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشرائح المعنية.. وهذه البطالة تطال كل المجالات؛ الأدبية والعلمية والخدماتية…
فهل في مجال المطعمة -وأخص فن الطبخ- هل نحن أمام زيادة في أعداد الأشخاص البالغين المؤهلين للعمل، والذين تنطبق عليهم شروطه، عن عدد الوظائف المتاحة في سوق الشغل؟ أم نحن بشكل غير مباشر أمام تكوين وتخريج معطّلين جدد بينما الحاجة في سوق الشغل ما تزال قائمة؟
من خلال سنواتي القليلة التي امتهنتها في هذا المجال بين مهنية في القطاع ومكونة، وقفت على ثغرات تجعل إدماج الشباب في سوق الشغل أمرا مستعصيا، وتجعل المؤسسات الفندقية والمتخصصة دائما في حاجة ليد عاملة مناسبة لا تجدها خصوصا في المواسم التي تعرف رواجا!!
المؤسف أننا في وقوفنا على الأمر، من خلال تجربتنا المتواضعة، نجد أن جزءا كبيرا من الخلل كامن في النُّظم التكوينية التي تستوعب الكم لا الكيف ببرامج تكوين تظل جامدة وبعيدة عن مواكبة ما يتطلبه السوق، مقابل اهتمام السوق بيد مؤهلة جاهزة دون رغبة واستعداد في استكمال العملية التكوينية إلا من مؤسسات مصنفة فخمة عددها لا يسمح باستيعاب أفواج الخريجين.
البطالة الطبيعية هي وجود عدد مؤهل من الشباب حامل للشهادات دون عمل مقابل انعدام طلب من جهة سوق العمل. لكننا في مهن المطعمة أمام بطالة غير طبيعية؛ حيث أن عملية إنتاجها تبدأ منذ ولوج الشاب للتكوين، شاب معرض للبطالة، بطالة مقنعة كانت أو مالية أو بطالة حقيقية.. ولهذا أسباب أتطرق لذكرها.
عرف مجال فن الطبخ ثورة معينة في نوع المطاعم ونقط بيع بسوق العرض ذات طابع لا يمثل التقنية المهنية المطلوبة في فن الطبخ، ولا يمثل التراث المغربي، إذ لا يقدم أدنى خدمة لهذا التراث بشقيه المادي واللامادي. ثورة من وصفات وطابع خدمة يستقطب عددا مهما من الشباب (ذكورا وإناثا) دون عقدة عمل ودون فرصة لأي تطور مهني يُكتسَب من تجربة هذا العمل، لأنه لم يسبقه تكوين قبلي يجعل من الشاب الممارس خزّانا وبوصلة صحيحة قوية لتصحيح مسار هذا النوع من الطعام وتطويره وتجويده، ولم لا تمييزه بمنتوجات محلية وصحية تخدم المنطقة والبدن!!
الشاب العامل بهذا النوع من الخدمة المقدمة التي تكتسح مساحة مهمة في سوق الشغل، خريجاً كان أو غير مكوَّنٍ في فن الطبخ، يجد نفسه أمام لائحة جامدة من التحضيرات تقتل فيه حس الإبداع إن كان فنانا، فيهرب بحثا عن ميدان آخر ليبدأ من جديد، ونخسر بذلك طاقة مهمة كانت لتكون قيمة مضافة للقطاع.. أو تجعل منه آلة إن كان يحتمل امتهانها فقط في سبيل الأجر اليومي أو الشهري!!
بما أنه ليس من جهة معينة أو خطة لتصحيح وتطوير، أو على الأقل استرجاع، ذوق الساكنة والشباب، أو ليس حريّاً إذن أن تلتفت المؤسسات التكوينية المعنية لتطور سوق الشغل بمستجداته، وتكوِّن شبابا في هذا النوع من الطعام ليضمن منتوجا ذو جودة وخدمة لائقة بشواهد تخصصية حقيقية تشجع على تشغيله بعقدة عمل محترمة؟!
للإعلام والتليفزيون والإنترنت دور مهم في تحديد أذواق الناس وميولاتهم واهتماماتهم، وكل جديد هو محط اهتمام دون شك، ونتاجا لذلك نشأت الكثير من مراكز التكوين الخاصة بفنون الطبخ. وهذا له حسنات كثيرة؛ كتشغيل بعض من اليد العاملة وخلق مقاولات صغيرة خاصة مدرة للدخل، ومتنفس مهم للسيدات وربات البيوت، إذ ينعكس ذلك بشكل إيجابي على حياتهن الخاصة، وتكوين الأرامل وتشجيعهن على إنشاء ورشات إنتاج خاصة بهن تمنعهن مد اليد والسؤال…
تهتم أغلب هذه المراكز الصغيرة التي بالكاد تنتعش وتنعش بتلقين الطبخ المغربي غالبا، فيكون اجتهاد المشرفين والمشرفات في إعداد الوصفات التعليمية ضربا صارخا لأصالة الطبخ المغربي، وأخص بالذكر “الحلوى المغربية”، فتنسلخ هذه الأخيرة من أصلها ولونها وشكلها وذوقها إلا من اسمها لتنوب عنها أخرى لا تشبهها في شيء.. وعند حاجة سوق الشغل لمتقن أو متقنة لهذا النوع المميز لا تجد كفاءة وافرة تغطي الخصاص وأكثر منه كفاءة تحمي هذا التراث من الضياع. فنحن حقا أمام فقدان هوية ذوقية تستوجب الانتباه والاهتمام..
دعوتي هنا لكل غيور إلى تكثيف الجهود لتوثيق هذا الموروث وإعطائه الاستحقاق اللازم وسط فوضى الطعام الأجنبي الذي يتطبع في ذاكرة أطفالنا! الأكل عنصر مهم في تشكيل الهوية والتاريخ والذكرى، فأي ذكرى لأطفال يرتادون محلات “الطاكوس والبيتزا” وفي البيوت غالبا ما يأكلون معجنات؟! فهل من لجنة مواكبة لهذه المراكز تُدارِس معها برامج التلقين وتلائمها مع التقنية اللازمة والتنمية الفندقية المرجوة والجودة الإنتاجية المحتَّمة؟! إن كانت، فحتما سيجعل ذلك من هذه المراكز نواة إنتاج يد عاملة مؤهلة وطنيا ودوليا لتسويق الطبخ المغربي والحلوى المغربية.
تعتبر معاهد التكوين المهني المتخصصة في الفندقة والمراكز التابعة له ملجأً ومنفذاً لكتلة ثقيلة من الشباب، منهم المنقطع عن الدراسة ومنهم المتمدرس بالجامعات.. يعتمد تكوين هذا الكم من الشباب على برنامج ذو أسس شاملة جامعة لعلوم فن الطبخ، إلا أن هذه الأسس لا يُشْتقّ منها أي تخصص يأخذ بالاعتبار حاجة سوق العمل، ولا يواكب المتدرب أثناء فترة تدريبه، ولا يوازي هذا البرنامج أي تكوين شخصي يجهز هذا الشاب ويوضح له معالم المهنة والمهارات الشخصية اللازمة لإتقانها، ولا تسخير أي مراجع حديثة ترفع من همة المتدرب فتكون منبعا يستقي منه رموز الولوج إلى سوق شغل عالمية!
أفواج هائلة تتخرج كل سنة تحمل أغلبها فكرة أن الشهادة هي المنقذ من البطالة، وترسخ هذه المؤسسات هذه الفكرة بالنهج الذي تتعامل به مع هذا الشباب..
إن أغلب الفئة المتوجهة للتكوين في هذا التخصص إما هاربة من أنياب التهميش والفقر والفراغ طمعا في وثيقة تعلق كل آمالها عليها في وطنها أو في وطن آخر بعد الهجرة، وإما طموحة، وهي قلة، شغوفة بهذا الفن، وهي التي تحقق التميز على الرغم من غياب الدعم والمواكبة والاحتضان. وما تبقى إنما شباب هائم يرتاد المعهد كروتين جديد يقنع به نفسه وأهله أنه يحاول.. يوهم نفسه بمحاولات صورية، الغياب فيها أكثر من الحضور، الجسد في زي مهني والعقل والوجدان هاربين ينتظران رشيداً ينيرهما ويردهما!
فتكون بذلك هذه الأفواج الجديدة المتخرجة كل سنة أفواجَ معطلين جدد كل سنة!! وتظل القلة المتميزة الطموحة غير كافية أمام ما تطلبه المؤسسات الفندقية والخدماتية في مهن المطعمة خصوصا في مواسم الذروة..
وفي الجانب الآخر تساهم هذه المؤسسات بدورها في إنتاج البطالة بسبب انتقائها لليد العاملة الجاهزة دون أدنى انخراط في تشجيع العملية التكوينية التكميلية ولا تقوية مهارات الخريجين الشخصية والتقنية، ونجدها بذلك تخلق بطالة أخرى جديدة وهي البطالة الاحتكاكية، حيث يشغل الطباخ أكثر من شغل وينتقل من قسم لآخر ويعمل بالقسمين معا مما يخل بمقدرته على الإنتاج والتأقلم وأيضا تضييق الفرص على طباخ آخر ليشغل القسم الشاغر!
ليس أكثر ما يجعل قطاع المطعمة هشا، على حيويته وأهميته في الاقتصاد المحلي والجهوي والوطني، إلا هذا التفكك الرهيب بين مكوناته وانعدام روابط بنيوية وتواصلية تجمع بينها مما يجعل مشاكله في اطراد مستمر وعلى رأسها البطالة.. لا يمكن للتنمية في مهنة الطباخ والتنمية السياحية بصفة عامة أن تتحقق إلا بتثمين الرأسمال البشري وتظافر جهود كل المعنيين من مؤسسات تكوينية عمومية وخاصة ووزارة السياحة بمكاتبها ومجالسها الإقليمية والمقاولات الاستثمارية الكبرى والصغرى والفدراليات والجمعيات المتخصصة والممولين وكل حرفيي القطاع وتكوين لجن ذات مهام محددة تخدم هذه التنمية.
في انتظار أن يتم ذلك، وأن تستدرك المؤسسات التكوينية سياستها باستيعاب كم مهم من الشباب وتخريج أغلبه أفواجا معطلة بشواهد، أتحمَّلُ وأُحمِّلُ مسؤولية المساهمة في بعض التغيير لهذا الشباب الطامح لهذه المهنة، اختيارك لها يلزمك بالإخلاص في الدراسة والبحث، والالتزام بأخلاقياتها. فإني إن أقول أن الثغرة بين الخريج العاطل وحاجة المؤسسة للعامل المفقود إنما هي ثغرة الجودة، فإن غابت بعض الجودة في المؤسسة حيث تكوّنْتَ فلا يجب أن تغيب عنك كقيمة تسعى إليها..
جودة إخلاصك في السعي لتحقيق هدف التميز في مهنتك، جودة بحثك وعنايتك بمعلوماتك، جودة اطلاعك على المواد الخامة وتقنيات تحويلها، جودة ذوقك وسلامته، جودة تقديرك لتراث بلدك وصيانتك له، جودة أمانتك بخدمة قطاع فن الطبخ وخدمة وطنك، جودة أخلاقك اللازمة مع مهنتك.. فتكون بذلك حرفيا يقتدى به ومنارا ينتشل غيره من الشباب من ظلام الخمول والتمسك بالشهادة، بل يكون لهم أملا لتكون الشهادة محطة انطلاق لا وصول!