بعد تردّد عزمت أن أخـوض بحر سيدي محمّد العلوي السّليماني رحمه الله رحمة واسعة، أصارع لججه فيما يشبه المغامرة لأستجلي بعضا ـ فقط بعضا ـ من معاني الرجولة الإيمانية لرجل دعوة من عياره، عساها توقظ همما ناعسة كهمتي لتطلب ما طلبه، وما ندب حياته له.
“واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك”
لا يستقيم إيمان مؤمن حتى يحقّق أركان الإيمان، ويؤمن يقينا أنْ ما من شيء إلاّ بأمره سبحانه، وتصديقا لحديث “يا غلام” لابن عبّاس رضي الله عنهما: “… واعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك… فإذا سألت فسل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وإذا اعتصمت فاعتصم بالله، واعمل لله بالشكر فى اليقين، واعلم أنّ الصّبر على ما تكره خير كثير. فإنّ النّصر مع الصّبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسرا” 1 كان سيدي محمّد العلوي السليماني ثالث الثلاثة ـ الأستاذ عبد السّلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان والأستاذ أحمد الملاخ عافاه الله ـ الذين تقدّموا للملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله بنصيحة “الإسلام أو الطّوفان” في أجواء سياسية مشحونة مثّلت أوج سنوات الرّصاص، ولم يكن للرّجال الثّلاثة أن يتردّدوا في أداء واجب النّصح بالكلمة الطّيبة للسّلطان، وهم يدركون عواقب الصّدع بالحقّ، فكان ما كان من اعتقال وتعذيب وحملات تشنيع وحصار وما يزال، وصدق الله العظيم إذ يقول: ومن يتوكّل على الله فهو حسبه، إنّ الله بالغ أمره، قد جعل الله لكلّ شيء قدرا.
“.. وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا..”
لم تكن غياهب معتقل درب مولاي الشّريف وسطو الجلادين لينال من عزيمة اتّقدت شعلتها، فقد كان رحمه الله يسمّي المحنة منحة إلهية، وكيف لا تكون كذلك وقد يسّرت له أن يكون من مؤسّسي مدرسة العدل والإحسان، باذلا كلّيّته مالا ووقتا وراحة وبيتا وأهلا لخدمة دعوة الله، تعبيرا عمليا عن صدقه في طلب وجه الله تعالى، فما بدّل ولا غيّر، وصدق الله العظيم: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا، ليجزي الله الصادقين بصدقهم.
“لأن يهدي الله بك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشّمس”
عاش سيدي محمّد العلوي السليماني رحمه الله يتنفّس نسائم الدّعوة فتربّت على يديه أجيال من أبناء وبنات العدل والإحسان، وندب حياته لتثبيت أسس التّربية الإيمانية بلطف ولين وصبر وسعة صدر وحبّ، هديه في ذلك قوله عزّ وجلّ: وقـولوا للنّاس حسنـا. أمّا عناوين خطابه الدّعوي فهي: حسن الخلق، البرّ بالوالدين، الإحسان للزوج، حسن الجوار، الرّفق بعباد الله أجمعين. ومن تمام نعمة الله بمرحومنا أن أمدّ الله في عمره حتّى رأى ثمار سعيه أجيالا من التّائبين الذّاكرين الصّالحين في ربوع المغرب وخارجه، فهنيئا لك سيّدي وطاب سعيك.
“إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاث..”
صدقت يا رسـول الله، وهل ينقطع عمل من جمع الله له الثلاثة: علم ينتفع به: وأيّ علم، إنّه العلم بالله والدّلالة عليه، فقد رسّخ في قلوب أجيال حبّ الله، ودرّبهم على ذكر الله، وأكسبهم الحياء من الله. صدقة جارية: وأيّ صدقة أعظم من أن ييسّر الله تعالى لعبده هداية ألوف مؤلّفة تتوب لربّها، وتنخرط في مشروع إحياء ميراث رسول الله. ولد صالح يدعو له: فكيف إذا انتشرت في بقاع العالم قلوب ـ لا يحيط بعددها إلا الله ـ تشـرّبت معاني الصّدق والاستقامة والرّجولة الإيمانية على يديه رحمه الله.
“بيننا وبينكم الجنائز”
تحدّ رفعه الإمام أحمد رحمه الله في وجوه خصومه، ولمّا لبّى سيدي محمّد العلوي السليماني نداء ربه هبّت الحشود من أبناء وبنات العدل والإحسان من سائر ربـوع المغرب وخارجه، وهبّت شخصيات دعوية وعلمية من مناطق شتّى اكتظّت بهم مدينة مرّاكش لتشيّع جثمان رجل من رجالات الدعوة في موكب جنائزي مهيب تعدّدت رسائله لمن كان له قلب أو تصديق في أن “من عاش على شيء مات عليه”، وأنّ من عاش يطلب وجه الله أحبّ الله لقاءه وجاءته بشارة ربّه: إنّ الّذين قالـوا ربّنـا الله ثمّ استقامـوا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافـوا ولا تحزنـوا وأبشـروا بالجنّة الّتي كنتم توعدون، نحن أوليـاؤكم في الحياة الدّنيا وفي الآخرة...
“وأمّا بنعمة ربّك فحدث”
أجل، لا جدال أنّ سيدي محمّد العلوي السّليماني رحمه الله عملاق من عمالقة الدّعوة ـ ولا نزكّي على الله أحدا ـ بلغ ما بلغ من علوّ همّة وسموّ تزكية لما حباه الله به من صدق وتصديق، وما أكرمه الله به من صحبة لأخينا المرشد الأستاذ عبد السّلام ياسين حفظه الله تعالى. وما أذكر مجلسا تحدّث فيه سيدي محمّد العلوي السّليماني رحمه الله دون أن يذكر فضل صحبته لأخينا المرشد عليه، يذكر ذلك ولا يملّ. وهذا ما أكّده الأستاذ فتح الله أرسلان ـ الناطق الرّسمي باسم جماعة العدل والإحسان في حفل تأبين سيدي محمّد العلوي السّليماني رحمه الله: ” عندما عرضت عليه هذه الصّحبة الصّالحة لم يتردّد ولم يتلعثم، بل استغلّ حياته كي يستفيد من هذه الصّحبة أقصى ما يمكن، وأعطاها كلّ ما يملك…”.
هذا درب الصّادقين أولي العزم من الرّجال، ألا فاطلبي يا نفيس ما طلب الرّجال، واسألي الله تعالى أن يجود عليك ممّا أكرم به أحبابه الصّادقين، والّذي جاء بالصّدق وصدّق به أولئك هم المتّقون.
والحمد للـّـه ربّ العالمين.