رجة العاجز واضطراب المتخبط وبطشة اليائس، هذا هو ديدن وحال النظام المخزني المغربي في تعامله مع جماعة العدل والإحسان.
النظام المخزني عجز في احتواء الجماعة والحد من امتدادها وتوغلها في الشعب المغربي بكل شرائحه. لم يترك مجالا أو طريقا إلا قعد فيه يرصد للجماعة، يحسب أنفاسها ويتمترس لها محاولا إيقاف زحفها وتحجيمها، لكن الواقع يشهد بأنه فشل في ذلك فشلا ذريعا.
لقد سلك النظام المخزني كل السبل من أجل النيل من الجماعة، في قوتها وانضباطها ورباطة جأشها وصبرها وحرصها على سلامة وأمن هذا البلد.
تتالت حملات الاعتقالات ومداهمات البيوت ومنع الجمعيات والتجمعات والمظاهرات العمومية… دون أن ينال ذلك من تماسك الصف وحضور الجماعة مع الشعب في همومه، بل والمشاركة الفعالة والقوية في أي تحرك شعبي يهم قضايا محلية أو قضايا الأمة العربية والإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
ولَئن كان واقع الحصار المفروض عل الجماعة قد قلل من إشعاعها بسبب منعها من التظاهر السلمي في الشارع العمومي ومنع جمعياتها من التنظيم، وكذا منع أعضائها القياديين من المشاركة في بعض المناسبات الوطنية العمومية، كما حدث مؤخرا للأستاذ فتح الله أرسلان بمدينة فاس، فإن ذلك لم يحد من زحفها لأن الرهان على هذا المنع المتكرر والمتعدد لم يعجز الجماعة في استمرار استقطابها لأعضاء جدد، خاصة من فئة الشباب. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن قوة الجماعة لا يعكسها حضورها في المشهد الجمعوي ولا تنظيمها وتأطيرها أو مشاركتها في الأنشطة الإشعاعية العامة، بل تعكسها قدرة أعضائها على التواصل وتبليغ رسالتها الدعوية وتصورها المنهاجي التغييري إلى مختلف فئات الشعب المغربي.
وهذه القدرة لا يمكن للمنع المخزني أن يطالها، ولا يمكن للمداهمات والاعتقالات والمحاكمات الصورية أن تفلّ من عزمها ومضائها، لأن هذه الدعوة بالنسبة لأعضاء الجماعة هي بكل بساطة قضية حياة، آمنوا بها ورخصوا كل غال ونفيس في سبيلها.
ولعل مخابرات المخزن المغربية قد أدركت هذه الحقيقة بعد كل حملة اعتقالات حينما يتبين لعناصرها من خلال المحاضر التي تنجز لأعضاء الجماعة بأنهم أمام موجة جديدة من صف الجماعة، أكثر يقينا وأشد تمسكا بقضيتهم.
في الفترة الأخيرة انبرت بعض الأقلام الحاقدة تعلق على جماعة العدل والإحسان في تظاهراتها المساندة للقضية الفلسطينية، وغيرها من قضايا الأمة العربية والإسلامية، وتزايد عليها في وطنيتها واهتمامها بقضايا الشعب المغربي المفقر والمسلوب في حريته وكرامته وأمنه الاجتماعي والنفسي.. تقول – تلك الأقلام – أن سكان أنفكو ومواطني الأطلس المحاصرين بأحزمة الفقر والبطالة والتهميش.. هم أحق أن يحظوا بالمساندة والدعم والتظاهر من أجل رفع الظلم والتهميش عنهم.. وأن فلسطين بعيدة عنا وأهلها أولى بها.
هذا حق. الشعب المغربي “اللي فيه يكفيه” الشعب المغربي غارق في المشاكل، وقضاياه الملحة والآنية التي تستلزم من الجماعة ومن الجميع، المطالبة والمساندة والدعم والسعي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والحيلولة دون استمرار نزيف التفقير والتهميش والتعمية على الحقائق ونهب ثرواته والمتاجرة بأبنائه وارتهان مصيره للغريب وللمجهول.. كل هذا حق وبسط مظاهره لا ينتهي.
لكنه حق أريد به باطل. حق يشهره المدعون المرجفون في البلاد لتبرير عجزهم وتنكصهم عن الذود عن قضايا ومصالح الشعب، والتعبير عن اهتماماته وانشغالاته، سواء في بعدها المحلي أو في بعدها العربي الإسلامي. ويتناسى هؤلاء، بل يحجبون حقيقة أن جماعة العدل والإحسان، وما ينالها من تضييق وحصار واضطهاد ليس منشأه نهوضها للتنديد والتظاهر ومساندة الشعب الفلسطيني في محنته، بل منشأه هو ذاك الرفض الدائم والمتواصل للظلم الذي ناله ويناله الشعب المغربي في دينه ورزقه وفي حريته وكرامته.
إن مآسي سكان الأطلس وعموم المغاربة ليست إلا تجليا وانعكاسا للظلم الأكبر الذي يرزح تحت كلكله الشعب منذ قرون، وكل الأدواء التي يشكو منها العباد بمغربنا الحبيب مصدرها واحد وأوحد.. وهو الاستبداد واستئثار الحكام بخيرات البلاد.
فأين الحكمة في الانشغال بمظاهر وتجليات الداء بينما أصله وقراره لا يلبث يتجذر ويتعمق ولا من يشير إليه ببنت شفة؟
الجماعة انشغلت باستئصال أصل الظلم وجذور الباطل، وهو الأمر الذي ما فتئت تدعو وتنادي إليه، فهل أجابها إلى ذلك أحد؟
هل تجرأ أحد على الصدع بكلمة الحق في وجه الاستبداد والثبات على ذلك؟
الجماعة فعلت وثبتت، ولذلك تراها اليوم مرمى لكل أشكال التآمر والتشويه والظلم من قبل المخزن وأعوانه.
أما الاهتمام بقضايا الأمة، وقضية فلسطين بالتحديد، فهو جزء من انشغالاتها المركزية بعد انشغالها الرئيس بالمغرب وبأبناء المغرب في حاضرهم ومستقبلهم.
فلا سبيل إذن للمزايدة عليها في هذا الشأن.
مازال نفر كثير من الناس ينظرون إلى الجماعة على أنها حركة سياسية، مثلها مثل باقي الأحزاب والتنظيمات، تنازعهم الصدارة في المشهد السياسي النضالي. هذا جزء من اهتمامها، لم تتوقف يوما عن توضيحه وبيانه، وهو الجزء الذي تتقاسمه مع غيرها من التنظيمات الوطنية ولها كل الحق في ذلك بما أنها تنظيم وطني، قيادته وطنية، برامجه وطنية، وأدبياته منشورة وواضحة.
أما ما تتميز به، فهو كونها حركة دعوية شاملة تستوعب كل مناحي الحياة. والدعوة في دين المغاربة لا تقتصر على مجال واحد، وإنما تنسحب على كل اهتماماتهم، من الطهارة إلى الحكم.
أقول بأن الجماعة تتميز بهذه الشمولية دون أن أقصد بذلك أنها تحتكرها. وإلا فقد وَدَّ الأستاذ عبد السلام ياسين، المرشد العام لجماعة العدل والإحسان، لو أن إخواننا في الأحزاب والهيئات يزاحموننا في هذا الأمر، أمر الدعوة والتربية، لكنهم لا يفعلون، بل يكتفون فقط بالقول أن الإسلام هو دين الجميع.. وبأنه لا يحق لأحد أن يتحدث باسم دين الشعب، وهم بقولهم هذا يتحدثون باسم دين الشعب ويفسرونه حسب هواهم.. خاصة حينما يقولون بأن الإسلام لا علاقة له بالسياسة ولا ينبغي لأحد أن يقحمه في السياسة.. أي هبل هذا!؟
هذا التميّز للجماعة وهذه الحكمة وهذا التبصر وهذه الشمولية.. هو ما يشكل سر بقائها وثباتها واستمرار حصدها لقبول وحب وعطف جزء عريض من الشعب المغربي. وهو ما سيشكل في القريب المنظور فارقا حاسما في الساحة الدعوية والسياسية بالبلد خاصة مع تتابع انتكاسات النظام المخزني واستغراقه في الاستهانة بذكاء المواطنين والاستخفاف بعقولهم.
فكيف تريد يا سيدي، وأنت تعلم الجواب، أن ينتهي ليل ظُلامها؟