فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ النور آية 36.
ذكر الحق جل وعلا في مقام المدح بيوتا عامرة بذكر الله وتلاوة كلامه، فلم ينسبها إلى “المساجد” رغم أن جل المفسرين متفقون على أن البيوت في الآية هي المساجد، فعن عمرو بن ميمون قال: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد: بيوت الله، وشذّ عكرمة عن السواد بقوله “هي المساكن والبيوت كلها، أي المسكن يعمرونه ويذكرون الله فيه وليست بالمساجد التي سماها الله بأسمائها”، مع أن القول ضعيف، لأنه تخصيص بلا دليل، ومع ذلك تحتمله الآية، إذ الأرض كلها في الأصل جعلت مسجدا حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا” 1 ولقول زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ: «لَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، وَاتخِذُوا فِيهَا مَسَاجِدَ» 2.
أما قوله تعالى أذن بمعنى أمر وقضى، وتُرْفَعُ بمعنى أَنْ تُعَظَّمَ، وعن ابن عباس في قوله يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ، قال يُتْلَى فيها كتابه 3.
فدَلّ كل هذا على مكانة البيوت الأرقمية ودورها الدعوي والتربوي في بناء لبنات المجتمع الإسلامي المنشود بإذن الله ووجوب إحيائها فينا.
الأسرة لبنة الأساس في الأمة، والأسرة الصالحة أم صالحة وأب صالح وعمل صالح، ومن أجَل العمل الصالح الاجتماعُ الأسري على تلاوة كتاب الله جل وعلا وحفظه وتعهده وختمه وتدبره.
“في المجتمع المسلم يكون القرآن محور تربية الأطفال، ومرجع علم اليافعين، وجنة إيمان المسلمات والمسلمين. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده”. الحديث رواه مسلم. ويكتسب البيت تجتمع فيه المومنات ويرابطن على التلاوة والدرس معنىً من معاني بيوت الله. فكرم الله واسع، والسكينة والرحمة وحفوف الملائكة مما يتفضل به سبحانه على عباده المومنين وإمائه المومنات” 4.
فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال «عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: عليكم بالقرآن» فكيف حفظنا -نحن الآخِرين- عهد رسول الله في بيوتنا وأهلينا؟ فصحابته أثلوا لنا النموذج الأمثل للاتباع في تثوير كتاب الله في بيوتهم، حتى جاء قوم من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: «ألم تر يا رسول الله ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة يزهر فيها وحولها أمثال المصابيح فقال لهم: فلعله قرأ سورة البقرة، فسئل ثابت بن قيس، فقال: نعم قرأت سورة البقرة». وفي هذا المعنى حديث صحيح عن أسيد بن حضير في تنزل الملائكة في الظلة لصوته بقراءة سورة البقرة 5.
نعم امتثلوا رضي الله عنهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بقوله: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» 6، قال البيضاوي: “أي كالمقابر خالية عن الذكر والطاعة، واجعلوا لها نصيبًا من القراءة والصلاة” 7، “يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ لَا تَجْعَلُوا الْبُيُوتَ وَطَنَ النَّوْمِ فَقَطْ لَا تُصَلُّونَ فِيهَا فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَالْمَيِّتُ لَا يُصَلِّي. ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ فِي بَيْتِهِ جَعَلَ نَفْسَهُ كَالْمَيِّتِ وَبَيْتَهُ كَالْقَبْرِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ كَمِثْلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» 8.
ووعوا قوله عليه الصلاة والسلام “أَلَا إِنَّ أَصْفَرَ الْبُيُوتِ مِنَ الْخَيْرِ بَيْتٌ صِفْرٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ” 9، وفي رواية عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ “إِنَّ أَصْفَرَ الْبُيُوتِ بَيْتٌ لَيْسَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، فَاقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ الم، وَلَكِنِّي أَقُولُ أَلِفٌ، وَلَامٌ، وَمِيمٌ” 10، “والصِّفْر والصَّفْر والصُّفْر: الشَّيْءُ الْخَالِي، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَصفار” 11.
كرمٌ وأي كرمٌ، وشرف وأي شرف، بيوت ملائكية، بل نجوم أرضية تتراءى لأهلِ السماء من الضياء والنور، سُوَر تُذهب كيد شياطين الإنس والجن، وترتيل يطرد أشياح الظلام من القبر الخامد المنطفئ الأنوار، وقراءة تتنزل لها الرحمات وتربط بين قلوب أهل البيت بل يتعدى نورها الجوار سكنًا ونسلا.
فعن ثابت البناني قال: “كان أنس بن مالك إذا أشفى على ختم القرآن بالليل أبقّى منه شيئاً حتى يصبح، فيجتمع أهله، فيختمه معهم. وكان رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع ولده وأهل بيته فدعا بهم” 12.
[2] المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي بيروت، الطط 2، 1403هـ.
[3] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، وتفسير ابن أبي حاتم.
[4] تنوير المؤمنات، عبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق، ط 1، 1996، ج 1، ص 363.
[5] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز،ابن عطية الأندلسي، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1422 هـ، ج1، ص 38.
[6] صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت، بَابُ اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ النَّافِلَةِ فِي بَيْتِهِ، وَجَوَازِهَا فِي الْمَسْجِدِ.
[7] قوت المغتذي على جامع الترمذي، جلال الدين السيوطي، 1424 هـ، أبواب فضائل القرآن.
[8] فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة بيروت، 1379، بَابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ.
[9] الزهد والرقائق لابن المبارك، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية بيروت، بَابُ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ التَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا.
[10] المستدرك على الصحيحين، الحاكم، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1411 – 1990، ذِكْرُ فَضَائِلِ سُوَرٍ وآيٍ مُتَفَرِّقَةٍ.
[11] لسان العرب، جمال الدين ابن منظور، دار صادر بيروت، ط 3، 1414 هـ ، فصل الصاد المهملة.
[12] مسند الدارمي، تحقيق حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1412 هـ – 2000 م.