قال الله تعالى يخاطب أمـة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة، الآية 150]. هي أوصاف ثابتة لنبي الرحمة المهداة؛ رأفة ورحمة بنا وحرص على رشدنا وهدايتنا. قال الإمام القشيري رحمه الله: “جاءكم رسـول يشاكلكم في البشرية، فلما أفردناه به من الخصوصية ألبسناه لبـاس الرحمـة عليكم، وأقمناه بشواهد العطف والشفقة على حملكم، قد وكل همه بشأنكـم وأكبر همه إيمانكم”.
صفته صلى الله عليه وسلم في التوراة
حرص مع رأفة ورحمة منبعثة من قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم تسـري إلى القلـوب، فتشع هدى ورشدا وإيمانا. أخرج الإمـام البخـاري في صحيحه عن عطـاء بن بشـار قال: لقيت عبد الله بن العاص رضي الله عنه، فقلت أخبرني عن صفـة رسـول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: “أجـل والله إنـه لموصوف في التوراة ببعض صفتـه في القـرآن: يـا أيهـا النبــي إنـا أرسلنـاك شاهـدا ومبشرا ونذيرا [سورة آل عمران، الآية: 195]، وحـرزا للأميين، أنت عبـدي ورسولـي، سميتـك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسـواق، ولا يدفــع السيئـة بالسيئـة، ولكـن يعفــو ويصفـح، ولـن يقبضـه الله حتى يقيـم بـه الملـة العوجـاء، بـأن يقولـوا لا إله إلا الله، ويفتـح بـه أعينـا عميـا وآذانـا صمـا وقلوبــا غلفـا”.
حلم ومراضاة
ولا أدل علـى حلمـه وصفحـه وحرصـه ممـا رواه الإمام البـزار رحمه الله؛ عن أبي هريرة: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَلا أَجْمَلْتَ. فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ، وَقامُوا إِلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا، ثُمَّ قَامَ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَأرْسَلَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَادَهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ وَفِي نَفْسِ أَصْحَابِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِي صُدُورِهمْ عَلَيْكَ، قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَوِ الْعَشِيُّ جَاءَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ قَالَ مَا قَالَ فَزِدْنَاهُ، فَزَعَمَ أَنَّهُ رَضِيَ أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعِشِيرَةٍ خَيْرًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلِي وَمَثَلُ هَذَا، مثل رَجُلٍ لَهُ نَاقَةٌ شَرَدَتْ عَلَيْهِ، فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا، فَنَادَاهُمْ صَاحِبُهَا: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي، فَإِنِّي أَرْفَقُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْلَمُ، فَتَوَجَّهَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا فَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الْأَرْضِ، فَرَدَّهَا حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ، وَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا، وَاسْتَوَى عَلَيْهَا، وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ، فَقَتَلْتُمُوهُ دَخَلَ النَّارَ).
مـا أعظـم هذه النفـس السمحـة الرحيمـة التـي سمـت كـل السمـو، تتلطف للخلق وترفق بهم بما يحبون ليسمعوا هدي الله ويستجيبوا له، قال الله سبحانه وتعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [سورة آل عمران، من الآية 159].
يقول الأستـاذ عبـد السـلام ياسيـن رحمه الله تعالى في هذه الآيـة: “اعف عنهم حتى يحسـوا بعطفـك، واستغفـر لهم حتى يعلمـوا أنك تحمـل همهـم أمـام الله عز وجل، بعد ذلـك شاورهم…) [المنهاج النبوي، الطبعة 3، ص 873].
دعوتي لأمتي بعد كل صلاة
أي حـرص أكبـر وأعظـم من أن يحمـل همنـا أمام الله عز وجل؟ أخرج الإمـام مسلـم فـي صحيحـه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين أَن النَّبِيَّ ﷺ تَلا قَول اللَّهِ سبحانه وتعالى في إِبراهِيمَ ﷺ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم: 36]، وَقَوْلَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْه وَقالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى، فَقَالَ اللَّه سبحانه وتعالى: يَا جبريلُ، اذْهَبْ إِلى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فسَلْهُ: مَا يُبْكِيهِ؟ فَأَتَاهُ جبرِيلُ، فَأَخْبَرَهُ رسولُ اللَّه ﷺ بِمَا قَالَ، وَهُو أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبريلُ، اذهَبْ إِلى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرضِيكَ في أُمَّتِكَ وَلا نَسُوؤُكَ.
علم عليه الصلاة والسلام مقدار الحق الذي أرسله به ربه، وما أعده سبحانه لمن صدق وآمن وعمل صالحا من النعيم، ولمن تولى وأعرض من سوء الحساب. فكـان حال رسـول الله صلى الله عليه وسلم الاهتمام بشأن أمتـه والدعاء لهـا.
أخـرج الإمام البـزار رحمه الله عن عائشـة رضي الله عنها قالت: “لما رأيـت من النبـي صلى الله عليه وسلـم طيـب نفــس قلـت: يـا رسـول الله ادع الله لـي، قـال: “اللهــم اغفـر لعائشـة مـا تقــدم من ذنبهـا وما تأخـر، وما أسرت وما أعلنـت” فضحكت عائشـة، حتى سقـط رأسهـا فـي حجرها مـن الضحـك، فقـال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: “أيسـرك دعائـي؟” فقالـت: وما لي لا يسرني دعاؤك؟ فقـال: والله إنهـا لدعوتـي لأمتي في كـل صـلاة”.
أغبط الناس
هـذا نبـي الرحمـة والرأفـة الحريـص علـى أمتـه، فمـا أحوجنـا فـي هـذا الزمـن – والأمـة فـي وهــن – أن نحـذو حـذوه، ونسيـر علـى نهجـه، ونحيـي أمتـه بسنتـه، نحـرص عليهـا كحرصـه صلى الله عليه وسلم عليهـا، ندعوها للهدى ونرفق بها ونرحم، نحبـب الله إلى عبـاده ونحبـب العبـاد إلـى الله عسى أن نكون بذلك ممن يغبطهم الأنبياء والشهداء. روي عن سيدنا أنس: أن النبـي صلى الله عليه وسلم قـال: “ألا أخبركـم عن أقـوام ليسـوا بأنبيـاء ولا شهـداء يغبطهـم الأنبيـاء والشهـداء بمنازلهـم من الله تعالى علـى منابـر مـن نـور يعرفـون عليهـا. قالـوا: مـن هــم؟ قـال: الذيـن يحببـون عبـاد الله إلـى الله تعالـى ويحببـون الله عز وجل إلى عبـاده ويمشـون في الأرض نصحـاء. فقلنـا هـؤلاء حببـوا الله إلـى عبـاده، فكيف يحببـون عبـاد الله إلى الله؟ قال: يأمرونهـم بما يحب الله وينهونهـم عما حرم الله فإذا أطاعوهم أحبهم الله”.
فاللهـم اجعل فضائل صلواتك على سيدنا محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين، قائد الخير وفاتح البر ونبي الرحمة وسيد الأمة.