بقلم: مصطفى شقرون
تتعدد النيات.. وتظهر تارة.. وتخنَس أخرى..
فمِن قارئ ليُشبعَ حبَّ استطلاعه الفطري.. بل ليشبع -في الحقيقة- حنينَه الفطريَّ للغيب الذي لا يراه.. ويشبعَ حاجته الفطرية -كمخلوق- لخالقه..
وهذه قراءة فردية.. فضول.. متعة.. لا تتعدى القارئ إلى غيره من الناس.. كثيرا..
وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..
ثم هناك من يقرأ “كثيرا”.. وما هو بكثير إلا في ظنه: فعدد ما كتب إلى الآن 130.000.000 كتاب 1.. فالأصل أن نقرأ لمشروع.. لا أن نقرأ فقط..
وهناك من “يتثقَّف”.. ليبدوَ للناس “عميقا”.. فيكتبُ.. لا ليحرِّكَ العالم من حوله ويحرِّضَ الناس في اتجاه تغييرهم للعالم من حولهم.. ولكن ليوجِّه الأنظار في اتجاهه.. فيحصد الإعجاب.. ويقال “عالم”.. أو “مثقف”..
“فقد قيل”..
وهناك من يُنظِّر ويفكر.. فيُخيّل إليه أنه ب”فكره” المجرد وتحليلاته قد غيّر شيئا.. وأنه -و”النخبةَ” القليلة- التي تقرأ له هم من يُسيِّرون -بأفكارهم- العالم..
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا..
تنسى النخب “المثقفة” (أضع الكلمة بين هلالين لأن تعريف الثقافة عائم.. هلامي غير دقيق.. بل غير واحد..)
تنسى النخب “المثقفة” أن من غيروا العالم.. رجال لم يقفوا عند تفكيك الخطاب وإعادة تركيبه.. أو عند صياغة سيناريوهاتٍ ممكنة لما سيكون عليه العالم في القرن القادم.. بل هم قوم بسطاء.. “نخبة من نوع آخر”.. علماء حقا -ولا يعرفون أنهم العلماء- قاموا فقالوا ربُّنا الله.. وشمروا.. وعملوا حتى تغير القرن الذي هم فيه والذي تلاهم.. والقرونُ بعد ذلك.. كثيرا..
لم يكتفوا بتخيل السيناريوهات المفترضة وكتابتها.. بل أنبتوها.. وزرعوها.. وحصدوها وحصدها من بعدهم.. فكتبوا التاريخ..
وهناك صنف من الناس يستعمل ما قرأه ليغطيَ وليبررَ -“بمكانته العلمية”- أخطاء من هم من مذهبه..
كفقهاء السلطان..
ومرتزقة الأقلام..
وأبواق الإعلام..
ومثقفي الأحزاب..
حميّة!
حميّةً تصير.. في غياب منهاج واضح المعالم والأهداف والضوابط والحدود والخطوط الحمراء..
حميّةً تصير.. كلما غلبت الأنا.. فضببت الرؤية.. وأنست نية النضال الأولى.. والجهاد..
فيبدأ التيه..
عافانا الله.. وردّ بنا جميعا..
وهناك.. وهناك.. وهناك..
ولسنا هنا لنسائل نيات غيرنا.. بل لنجدد نيتنا نحن.. أولا..
كمن يسأل عن الشر مخافة الوقوع فيه..
وفي مقابل كل هؤلاء.. هناك من يكتب ليُعليَ اسم الله ويُبلِّغَه عباد الله.. ويُبلّغه نفسه قبلهم.. فيطبّقَ بالحرف كل ما كتب..
ورب قارئ أوعى من كاتب.. وأكثر عزما.. سيأخذ ما كتب بقوة.. ويترجم الحروف القلبية إلى لبنات للبناء.. ويحيل الكلام المؤلف عمرانا على الأرض.. وحبا جامعا مؤلفا بين الناس بانيا..
كتب الإمام المجدد عبد السلام ياسين في الرسالة العلمية:
“نكتب إن شاء الله.
ندعو ونكتب.
نكتب لندعو.
نربي على ذلك ونتربى”..
لا إله إلا الله..
[نكتب لندعو]..
قاعدة.. أولى..
وقبلها قاعدة أن الكتابة “جزء” من الدعوة.. [ندعو ونكتب]
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله...
وقاعدة ثالثة أن الكتابة تربية..
[نتربى ونُربّي على الكتابة]
باب هي الكتابة من أبواب شعب التربية على الإيمان..
ولا نعني بالكتابة الدعوية وعظا.. فقط.. وإنما أسلمة ذكية لكل مناحي الكتابة العلمية والتقنية والتاريخية والأدبية وحتى المروحة منها عن النفس.. من مسرح وسينما وشعر وإنشاد.. ما دخلت في مخطط دعوي يخاطب كل أبعاد المسلم ويسمع فطرة الإنسان..
ويأتي الشيطان -من الجنة والناس- ليقول لك: وماذا جنيت بما كتبت؟ فتيأس وتتوقف.. وتنسى أن الدعوة بلاغ..
وما عليك إلا البلاغ..
وينسيك -لعنة الله على أبليس وذريته- أن من “أبواب الجهاد” الإحدى عشرة: “جهاد الكلمة”.. لا أية كلمة..
ولقد عرفت رجالا ما تزال كتبهم -وترجماتها-.. وأشرطتهم -وترجماتها- تدخل الناس إلى الإسلام.. عجما وعربا.. وترفعهم إلى مراقي الإيمان والإحسان.. في جهات الأرض الأربعة.. وأعني -أولا- الإمام المجدد سيدي عبد السلام ياسين -رحمه الله-..
نظم -جزاه الله عنا خيرا- مجيبا من حاولوا التنقيص من الكتابة والتأليف الدعويين.. أي التنقيص من الدعوة إلى الله..
نظم من علمنا ألا نقرأ إلا بمشروع ولمشروع (دعوي).. لا أن نراكم “ثقافة عامة” لا وجهة لها..
نظم من علمنا أن “العمل الصالح” هو ما كان مندرجا في جهاد.. (قلت ومن هذا العمل الكتابة)..
قال من آلمه أن كثيرا مما يكتبه الناس -حتى الإسلاميين منهم- خال من ذكر الله ومن ذكر الآخرة…
قال رحمه الله ورفع ذكره:
“يُعَاتِبُ: كمْ ذا تَخُطُّ الطرُوسَ.. تبُثُّ إليها همومَ القَلَمْ!
وصَوْتُ صَلِيلِ السلاحِ يَصُولُ.. وحَامِلُه بَيْننا قدْ حكَمْ
وهلْ قَلَمٌ قامَ بين الكُماة.. فناضَلَهم في الوَغَى وَصدَمْ!
فقُلتُ: بِكِلْمَةِ حَقٍّ تُخَطُّ.. وَيَنْطِقُهَا الصادِقون بِفَمْ
تَطَلّعَتِ الأنفُسُ الفاضِلاتُ.. لِأَوْجِ المعالي وعاشَتْ أمَمْ
وإنَّ صريراً لأَقلامِنا.. بسَطْوَتِه كَمْ بَنَى وَهَدَمْ
فصلِّ إلهي على المصطفى.. جميلِ الخِصال حميدِ الشِّيَمْ..” 2
ويتردد بيت كالصدى.. كلمة باقية في عقبه.. تواجه كل من ظلم وتحذره بقرب انهيار منظومة ظلمه.. وتستنهض المؤمنين للعمل والبناء ودعوة خلق الله.. إلى الله..
وإنَّ صريراً لأَقلامِنا.. بسَطْوَتِه كَمْ بَنَى وَهَدَمْ
نعم.. فصرير قلم الداعي إلى الله “كَمْ بَنَى”.. وسيبني.. بعد هدم قواعد الظلم.. بل قبله وأثناءه.. رحمه الله.. ورحمنا معه..
ونحن نرى من حولنا.. ما فعلت كتب كتبت بنية الجهاد والتغيير.. كتب باعثة على العمل البراغماتي الإحساني.. كتب منهضة للرجال بالحال والمقال.. كفتح الجيلاني وحكم السكندري وشعر الشافعي ورسائل النورسي وإظهار الهندي.. وغيرها..
(وحرض المومنين على الجهاد)..
ونحن نرى ما فعلت وماتزال تفعل في النفوس كتب “الإحسان” و”المنهاج النبوي” و”العدل” و”تنوير المؤمنات” و”نظرات في الفقه والتاريخ” و”الإسلام والحداثة” للإمام المجدد -رحمه الله- وغيرها..
وما تفعل.. وما ستفعل..
والله تعالى -وحده- من يبارك عمل الصادقين ويوصله..
فاختر لنفسك.. -ونفسي أعني أولا وآخرا-.. أي كتابة تريد..