لقد استعمل زبانية المخزن خلال أسبوع كامل وسائل تعذيب محرمة شرعا وأخلاقيا وقانونيا أذكر منها “الطيارة”، و”الشيفون”، و”الفلقة”، و”الهز العنيف”، و”كسر الظهر”، والصعقات الكهربائية، والتحرش الجنسي، والتهديد بالاغتصاب والقتل، ونتف الشعر، والضرب العشوائي في كل أطراف الجسد، والحرمان من النوم وقضاء الحاجة، والتجويع، وغيرها من عمليات الإذلال والتنكيل.
ولا بأس أن أشير إلى بعض هذه العناوين بشيء من التفصيل كما عشتها أو عاينتها:
1- استخدام الصعقات الكهربائية لمعاقبة المعتقلين، وقد تعرضت بدوري للسعات كهربائية تصعق أكثر المواطن حساسية في الجسد: المرة الأولى في أصابع اليد قرب الأظافر، والمرة الثانية في شحمة الأذن، فهم يختارون أعضاء الجسد الأكثر حساسية ليتضاعف الألم وتشتد الأوجاع.
2- غطس وجه المعتقل في ماء متسخ ممزوج بالبول حتى يصاب الأخ بعياء شديد ويقترب من الإغماء ويكاد يتوقف تنفسه ويخيل إليه أنه يختنق.
3- استعمال أسلوب كسر الظهر أو الرجل، حيث يجبرون المعتقل على القيام بحركات جسمانية صعبة ومؤلمة: يجلسون المعتقل على كرسي ويلوون رجله أو ظهره إلى الوراء يبتغون من ذلك تحقيق أقصى درجة من الآلام حتى يخال أنهم يريدون كسره.
4- أسلوب الهز العنيف، وأقصد به ما عشته بنفسي حيث يمسك المحقق بملابس وعنق الأخ وهو مصفد اليدين إلى الخلف فيهزه هزا مرات عديدة ويرتطم رأسه أحيانا بالحائط. وهو أسلوب خطير يستعمله الصهاينة بكثرة ونددت به العديد من الجمعيات الحقوقية، وقد يؤدي إلى كسور في الجمجمة أو انهيار عصبي وغيرها من العواقب الوخيمة.
5- من المشاهد المؤلمة التي عشتها أنهم أجلسوني يوما فوق كرسي ووقف أمامي جلادان، وخلفي جلاد واحد يصفعني متى شاء حسب مزاجه، أو يصرخ في أذني “تكلم أولد…” صراخا يخلف طنينا في الأذن. ثم وضعوا ذقني فوق طاولة وشد أحدهم شعر رأسي وأمرت بالكلام والإجابة عن بعض الأسئلة، ومن حين لآخر يضغط على رأسي بقوة بشكل فجائي مما يجعلني أعض لساني حتى يكاد يقطع فيشتد الألم بينما “الجلادون” يطلقون ضحكات أشبه بصراخ الشياطين.
6- الضرب المبرح بالسياط والكبلات دون التفريق بين أعضاء الجسد، ومن أمثلة ذلك تكبيل يدي الأخ إلى الخلف وإلقائه على ظهره فوق الأرض الباردة، فيجثو أحدهم بكل ثقله وجثته على كتفيه وصدره بينما يتكلف جلاد آخر برفع رجليه، فيضربون بطن الرجلين بلا رحمة ولا شفقة إلى حين التهابهما وانتفاخهما بحيث يعجز الضحية عن الوقوف على رجليه.
7- التهديد بإطفاء سيجارة مشتعلة في العنق، وتصويب المسدس إلى رأس الأخ وتهديده بالقتل، والاغتصاب والتحرش الجنسي وخلع ملابس الأخ وهو مصفد اليدين، وإجلاسه فوق قنينة والتهديد بإدخال عنقها في فتحة شرجه في محاولة لتخويفه، يلي ذلك ضحكات تنم على أن هؤلاء الجلادين بالفعل مرضى نفسيا.
وبالإضافة إلى هذه الأساليب الحقيرة عذب الإخوة باستخدام طريقة الطيارة -تعليق الرجلين إلى الأعلى وربط اليدين بقضيب من حديد يوضع تحت الركبتين مع انحناء الرأس إلى الأسفل…-، والشيفون المبلل بالماء المتسخ يضعونه في فم المعتقل ويخنقونه به، والحرمان من الطعام والنوم وقضاء الحاجة والوقوف مدة طويلة الخ.
كانت أجسادنا لعبة بين أيديهم ينهشونها بلا رحمة.
فمن غرائب ما عشته أن الزبانية أخذوني يوما من الزنزانة إلى قاعة اجتمع فيها أزيد من خمسة أفراد. وبينما أنتظر منهم افتراسي كعادتهم، حملق في أحدهم وأمرني بهدوء، أشبه بالهدوء الذي يسبق العاصفة، أن أكبر، فاستغربت لطلبه ورفضت تلبيته فإذا بصفعة مفاجئة تأتيني من خلفي تهوي على وجهي وكادت تفقد توازني، أتبعها أحدهم بسب وكلام ساقط “كبر أولد…” فكبرت بصوت منخفض فصرخ في وجهي آمرا إياي أن أكبر بأعلى صوت ففعلت دون أن أعي ما يمكرون، فإذا بهم يصرخون “أنحن كفار أولد…” فأسقطني أحدهم أرضا وبدأت أرجلهم تركلني في كل جانب وأيديهم تجذبني وتلطمني كأنهم وحوش كاسرة جائعة اجتمعت على فريسة ضعيفة بعد طول ترصد وانتظار. انتابني شعور غريب فاحتججت عليهم واستنكرت هذا السلوك الهمجي، فجثى أحدهم على صدري ورفع آخر رجلي إلى الأعلى، وتولى ضربها “بكبل” إلى درجة التهابهما وعجزي عن الوقوف عليهما.
فأرجعت إلى زنزانتي التي تحولت إلى مسجد أو محضن تربوي يغمره دفء الإخوة ونور الله وسكينته التي تنسيك ما تتخبط فيه من آلام ومعاناة. فالإنسان لوحده ضعيف فقير لا يستطيع مقاومة المصائب والملمات، لكنه حين يفر إلى ربه، ويفوض الأمر إليه، ويثق به، ويحسن الظن به تنقلب الموازين ويصبح العبد الضعيف صلبا قويا بقوة الله.من يحسن الظن بذي العرش جنى
حلو الجنى الرائق من شوك السفاانزويت في ركن الزنزانة وبدأ البرد من جديد يزحف على جسدي وينخر عظامي خاصة وأنني كنت حافيا بلباس خفيف ودون أغطية. وسألت الله تعالى أن يجعل هذا الابتلاء في صحيفة وميزان حسناتنا، وبدأت أفكر عساني أفك لغز ما حدث لي. فهم لم يطلبوا هذه المرة أسماء ولم يسألوا عن برامج وأنشطة، فكلمة الله أكبر كلمة نبيلة وعميقة مليئة بالدلالات، فقد علمنا ديننا الحنيف التكبير في كل شؤون حياتنا: فالتكبير يردد يوميا في كل بقاع العالم من فوق المآذن، فالمسلم إذا أذن كبر الله، وإذا أقام الصلاة أو دخل فيها كبر الله، وإذا ولد المولود أو ذبح الذبيحة كبر الله، وإذا جاهد في سبيل الله كبر الله، وأيام العيد كلها تكبير، فلما اختاروا التكبير لجعله مدخلا لتعذيبي وإهانتي؟.
أعمى الله بصيرتهم فهم لا يدركون أن ذكر “الله أكبر” هو ذكر لله، ولجوء إليه، وفرار وركون إليه، وهو من أعظم ما يطمئن القلب ويضفي السكينة عليه “إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين”.
الله أكبر “وهو القاهر فوق عباده” فلربما حين تردد أمامهم لا يسمعونها بقدر ما تصل آذانهم الصماء عن نور الله وهديه معاني وأصوات أخرى من قبيل الطغاة والجلادين صغار سفلة يد الله فوق أيديهم، فتحدث في قلوبهم مهانة ورعبا يترجمونه في ردة فعلهم الوحشية، فالله أكبر من طغيان كل حاكم طاغية، والله أكبر من استكبار المستكبرين المفسدين، والله أكبر ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. الله أكبر ولا إله إلا الله عليها نحيى وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله.
والمتمعن في سلوك هؤلاء المحققين الجلادين يستنتج بسهولة أن هؤلاء شخصيات مريضة نفسيا، فهم يرتكبون جرائمهم دون أي شعور بالخجل أو الذنب أو الندم قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة. يتلذذون وينتشون بآلام المعتقلين، ويصرخون ويهيجون ويلعنون الآباء والأجداد… إلى درجة فقدانهم القدرة على التحكم في اندفاعهم. طريقة أسئلتهم واستجوابهم، والكلمات البذيئة التي لا يعرفون غيرها كل هذا يدل على أنهم يعانون اضطرابات نفسية حادة تتسم بالحقد والعداء. فلن أبالغ إن قلت أنهم مصابون بانحراف سيكوباتي عدواني، وأنهم يشكلون إحدى المشكلات الاجتماعية والنفسية التي تحتاج إلى دراسة. وعلى كل حال فهم مرضى وفي حاجة ماسة إلى علاج نفسي لإعادتهم إلى حالتهم الطبيعية، وإدماجهم في الحياة العادية. أما الجلادون الكبار المخططون في خفاء والآمرون فهم يستحقون التأديب والعقاب، أو على الأقل تجريدهم من مسؤولياتهم “السامية” التي ما يزالون يتمتعون بها كي يكونوا عبرة لغيرهم في الدنيا، أما غدا يوم لقاء الله فكما قال الشاعر:إلى الديان يوم الحشر نمضي
وعند الله يجتمع الخصوملا ظلم ذلك اليوم، قال الله عز وجل: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين.
والخلاصة أن المخزن وقواده خولوا لهذه الشرذمة من المجرمين كل الصلاحيات، وتركوا لهم الحبل على الغارب يفعلون بالمعتقل المعزول عن العالم ما يشاؤون، فأهدروا كرامتنا، وأذاقونا المعاملة القاسية المهينة، وعذبونا عذابا شديدا استخدموا فيه كل الوسائل النفسية والبدنية التي ترنو تحطيم المعتقل نفسيا وجسديا، ولا تزال آثار التعذيب ومخلفاته من أمراض وغيرها قائمة لحد الآن.
بعد أسبوع من التعذيب داخل مخفر الشرطة كنا في غاية الإرهاق، خائري القوى.
كان عددنا يزيد عن ستين طالبا، وأضيف إلينا بعد أيام ما يفوق عشرة أفراد من أطر العدل والإحسان ومسؤوليها من وجدة والناضور وجرادة والرباط الخ. فقسمنا إلى مجموعتين حسب التهم الموجهة إلينا: مجموعة تتكون مما يقرب من ثلاثين طالبا أحيلت على المحكمة الابتدائية، ومجموعة أخرى تتكون من 37 فردا ومن ضمنها نحن، المحكومين حاليا بعشرين سنة، أحيلت على محكمة الاستئناف.
ثم أحلنا على الوكيل العام للملك في حالة يرثى لها بعضنا حفاة، مكبلي الأيدي وأثر الضرب والتعذيب باد على أجسادنا.
وكم كان موقفنا مدهشا حين دخلنا المحكمة ونحن نردد أناشيد تنذر بعاقبة الظالمين، وتعد بالنصر والتمكين لدين الله، فتأكد الجلادون أن التعذيب مهما بلغت حدته فلن يمنع الإنسان من حقه في الانتماء والتعبير.
استقبلتنا مختلف قوات الأمن في المحكمة، واحتجزنا في غرفة أو زنزانة صغيرة ضيقة جد متسخة تفوح منها رائحة كريهة. قضينا فيها اليوم بكامله، واضطر أحدنا لقضاء حاجته داخلها. مشهد مؤلم فكيف وصل الحد بهؤلاء لاستغلال كل الفرص للتعبير على أنهم ليسوا من بني الإنسان. فالغريب في الأمر أن قضاء الحاجة يرتبط لدى الجلادين بمزيد من التعذيب والإهانة. فكان المطلب الأول والمعركة الأولى التي خضناها ضد السلطات المخزنية داخل “قصر العدالة” هو حقنا في قضاء الحاجة في ظروف إنسانية في دولة القانون وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات المزيفة. فاشتد احتجاجنا على الوكيل العام الذي وعدنا بالنظر في الأمر، ثم أعطى تعليماته السامية لقوات التدخل السريع التي غصت بها المحكمة للاستجابة لمطلبنا الإنساني، فكان على كل أخ يرغب في قضاء حاجته أن يطرق الباب المغلق بإحكام مرات عديدة ثم يحاط برجلين مسلحين فيزج به في قاعة المرحاض الضيقة التي تبعد أمتارا عن قاعة الاحتجاز تلك دون السماح له بإغلاق الباب فيظل على هذه الحال محروسا إلى أن يعاد إلى الزنزانة.
وقد تلا علينا الوكيل محتوى المحاضر المزيفة واستنكرنا ما ورد فيها من تهم باطلة وأطلعناه على خلفيات اعتقالنا وحقيقة الأمر.
ثم تكرم علينا السيد الوكيل، الذي عاين أثر التعذيب على أجسادنا ورفض إجراء الخبرة الطبية، بإحالتنا على السجن المدني بوجدة ليبدأ مسلسل آخر من المعاناة والمأساة والتضييق والممارسات اللاإنسانية.
المعتقل السياسي مصطفى حسيني
أحد معتقلي العدل والإحسان الإثني عشر
حرر بالزنزانة 5 بسجن فاس