الفساد وسوء الأوضاع سمة غالبة لا تكاد تستثني شيئا ونار لا تبقي ولا تذر. وحديثنا عن السجن المركزي إنما هو من باب التمثيل لا غير، ثم هو شهادة عين لخبير به مدة تناهز اثنتي عشرة سنة، مدة خبرنا فيها عقلية مخزنية بائدة منغلقة زاد من كلوح وجهها ولطاخة سمعتها ما تزخر به من صنوف الفساد وتجذره وأنواع الظلم الذي ضاقت به ذرعا البلاد والعباد.
هذا السجن الذي كان قلعة شرف لكل مقاوم يفتخر به أمام جلاده المستعمر الذي أراد له أن يكون أداة قهر لعزيمة شعب أبي مقاوم، فلم ينل من مبتغاه شيئا ولم يحصد من ذلك إلا الخيبة والشنار، صار اليوم معلمة من معالم الفساد ووكرا من أوكاره التي تفتقت بها جدرانه المهترئة وقضبانه المتصدئة.
إن خصوصية هذا السجن تكمن في كونه محجة لذوي الأحكام الطويلة والقاسية، حيث يقطنه أزيد من 100 سجين محكوم بالإعدام، وما يفوق 1000 معتقل محكوم بالمؤبد، والباقي يتراوح ما بين 30 سنة و15 سنة. وما يميز أصحاب هذه الأحكام الطويلة انقطاع أغلبهم عن ذويهم ومواجهتهم لشراسة الغول “البيدانسي” بأيد عزلاء ونفسية خرباء وعقول من كل وعي جرداء.
فلم يبق من معيل لمن هذا حالهم سوى تلك اللقيمات التي تجود بها عليهم خزينة المخزن، ولم يعد لهم من ضامن لحقوقهم سوى هذا المخزن، وما من أحد يعيد لهم وعيهم وأخلاقهم ومعنوياتهم إلى سواء السبيل غير هؤلاء المربين حاملي لقب مراقب مربي. فإن نقصت تلك اللقيمات أو فسدت، وإن كان ضامن حقوقهم مفرط بل هو من يهضمها لهم، وإن كان من أنيطت به مهمة التوعية والتخليق ورفع المعنويات المنهارة هو من ينشر الجهل ويخرب الأخلاق ويحط من المعنويات فأبشر بغد زاهر بالخراب!
الوضعية المعيشية والصحية: لوحة تراجيدية بالأسود فقط!
السجن قيد للحرية وإعاقة لها بالشكل الذي يشعر السجين أنه يؤدي عقوبة على ما اقترفه خارج السجن دون المساس بكرامته ماديا أو معنويا. هذه النظرة الحديثة للسجن والعقوبة نسخت ما كان سائدا من قبل حيث كان السجن مصنعا لإنتاج الألم والأعمال الشاقة والتنكيل بكل من يلجه بحق أو بغير وجه حق. يصر المخزن بالمؤسسة السجنية بشكل عملي، وإن كان يحاول جاهدا على مستوى الخطاب أن يظهر بمظهر المنفتح على هذه النظرة الحديثة للعقوبة والسجن، على أن يحول السجن إلى جحيم لا يطاق بدافع الانتقام في أغلب الأحيان أو بجهل وتخلف وسوء طوية في أحيان أخرى.
إن هذه الأحزمة البشرية التي تصطف وراء القضبان تعاني من سوء التغذية وفقرها حيث ما يهيأ لها من وجبات غذائية يجوز في حقها كل الأسامي والنعوت سوى نعت وجبة غذائية حقيقية. فلم يدع النهب والسلب والإهمال وقلة النظافة وانعدام الإتقان وسوء التوزيع للسجين شيئا يفرح به أو يقنعه بخلاف الواقع.
ولا يظن ظان أن ما يقدم لهذه الدروع البشرية التي يصر المخزن أن يدعوهم نزلاء وكأنهم في فندق سياحي متميز، قد يسد الرمق أو يقيم الأود لأن موقفها تجاه ذلك أحد ثلاثة، إما استهلاكها كما هي وهؤلاء كثر ممن لا معيل لهم من خارج السجن ومصيرهم الإصابة بأمراض المعدة والأمعاء وما يترتب على ذلك، وإما شراؤها بطرق ملتوية، هي ملكهم ويدفعون ثمنها للحصول عليها طازجة ثم يهيئونها بطرقهم الخاصة، وإما الاستغناء عنها تماما والاعتماد على تمويل العائلة وهؤلاء قلة قليلة.
ثم إن هذه الذروع البشرية يعج بها السجن وتكتظ بها جنبات الزنازن والعنابر حيث تفوق تلك الأعداد الطاقة الاستيعابية للسجن بالضعف مما يتسبب في سوء المعيشة وقلة التهوية وانتشار الأمراض خاصة في الأجواء الملوثة بقلة النظافة وكثرة الأدخنة المتصاعدة من أفواه المدخنين والحشاشين وذوي العاهات المعدية، يزيد من فظاعة هذه الأجواء سوء تدبير المسؤولين لتوزيع الزنازن حسب مستحقيها وتفشي المحسوبية والزبونية والأمراض الإدارية التي نرجئ الحديث عنها لاحقا.
وأما الوضعية الصحية للسجناء فإنهم في حالة لا يحسدون عليها على كافة الأصعدة بداية من التطبيب حيث لم يبق من طاقم الأطباء العامين سوى طبيب واحد بعد أن كان في وقت سابق ثلاثة أطباء يترددون على هذه المؤسسة، هذا الطبيب الذي لا يتشرف السجناء برؤيته إلا سويعة في الصباح يبقى عاجزا عن تلبية رغبات ذلك الطابور المصطف من المرضى، وحتى وإن تمكن البعض من عيادة الطبيب فإن هذا الأخير لا يملك عصا سحرية لعلاج أمراض هؤلاء السجناء الذين أثخنهم سوء التغذية والرطوبة وقلة التهوية والنظافة جراحا، لما كٌبّل به من قيود وخطوط حمراء تعيقه عن أداء مهمته على أحسن وجه، وذلك من قبيل حصر لائحة الأدوية في بعض ما تسمح به “صيدلية” المؤسسة الفقيرة وكذا عدم إحالة المريض على الطبيب الاختصاصي إلا في الحالات القصوى التي غالبا ما يتعسر معها العلاج. وأما النظافة التي عليها مدار صحة السجين فإنها لا ترقى إلى المستوى الحد الأدنى لغياب الشروط الصحية ووسائل النظافة اليومية، بل وحتى المرضى المعاقين ذهنيا المكدسين في مصحة المؤسسة يرفلون في أوحال النفايات وتراكم الأزبال والجراثيم.
إن سوء الأوضاع المعيشية والصحية الذي تعرفه هذه المؤسسة ما هو إلا مظهر من مظاهر الفساد الإداري الذي لا يمكن أن ينكره أحد خاصة بعد أن أقرت به أعلى سلطة في البلاد على إثر تقرير صندوق النقد الدولي قبل بضع سنوات.
الفساد الإداري: مظاهره ونتائجه
الفساد الإداري هذا الغول الشبح الذي ما فتئ يهيمن على واقع السجون بالمغرب ويستشري في هذا الجسم المنخور له مظاهر تجسده وتبرزه خاصة في واقع السجن المركزي.
إحدى هذه المظاهر البارزة التي تتصدر القائمة تلك اللوبيات التي يشكلها موظفو الإدارة السجنية تتقاسم زعامتها حفنة من المسؤولين لكل جماعته يحميها بسلطته وتحمي مصالحه الداخلية وغنائمه!
وأهم تلك اللوبيات لوبي القنيطرة ولوبي سلا اللذين يهيمنان على السوق الداخلية وما على الموظفين الذين لا ينتمون جغرافيا إلى إحدى هاتين المدينتين إلا الانضمام إلى إحدى الجهات والاحتماء بها لضمان عدم التهميش والامتيازات التي قد يجنيها من جراء ذلك من قبيل غض الطرف عنه في كسبه السجني أو تكليفه بإحدى المهام المحظوظة المنتجة أو على الأقل إبعاده عن تلك المهام الشاقة غير المنتجة التي لا يجني من ورائها إلا التعب والمشاكل من جراء الاحتكاك المباشر بقوافل السجناء.
والصراعات التي تحدث بين هاتين الجماعتين تنعكس سلبا وبشكل مباشر على واقع السجن حيث تضارب المصالح يفضي إلى تعطيلها. والخاسر الأكبر هو السجين ومصالحه، هو السير العادي لنشاط المؤسسة المفترض فيها أن تكون في منأى عن هذه الصراعات الانتهازية.
ومن مظاهر الفساد أيضا انتشار الابتزاز والرشوة خاصة من المتنفذين وسط إحدى الطائفتين ولم يسلم من هذه الآفة إلا من رحم الله وعصم وقليل ما هم. وإذا كانت هذه الآفة مستنكرة خارج هذا القبو فإنها أشد استنكارا داخله، لأن هذا السجين الذي حرم من كل شيء وصار عالة على عائلته بعد أن استقالت الإدارة عن أداء مهمتها، يعد الابتزاز والرشوة في حقه مصا لدمائه ومن يقم بذلك إنما هو حشرة طفيلية خبيثة ماصة للدماء.
قبيح هو هذا الصنيع الذي تحرم بموجبه فئة عريضة من السجناء ضعيفة عزلاء لا حول لها ولا قوة لها من حد أدنى من حقها في العيش وتبتز عليه ابتزازا دنيئا.
عصابة المتاجرة في الزنازن حولت السجن إلى بورصة للمضاربة في العقارات حيث من يملك أن يدفع يملك أن يسكن مؤقتا قبل أن تفتعل في حقه مشكلة أو خلافا مع أحد السجناء المدفوعين لتنزع منه الملكية. ولم تعد تراعى تلك الشروط الضرورية لحيازة السجين لمأواه الذي هو زنزانته، وفي مقدمتها الأقدمية أو خصوصية الحالة إما لمرض خطير أو كون السجين طالبا أو معتقلا سياسيا.
قد يكلف السجين للحصول على زنزانة خاصة مئات الدراهم تصل أحيانا إلى 1500 درهم، وأما الانتقال من زنزانة إلى أخرى فلا يتم دون مقابل، بل إن كل حركة متميزة لها مقابل حتى وإن كان ذلك من صميم حقوق السجين.
ومن تلك المظاهر أيضا المتاجرة في المخدرات حيث التنسيق واضح بين تلك اللوبيات وبين عصابات المخدرات من السجناء، وإلا كيف يمكن لسجين وراء القضبان أن يتاجر في تلك السموم لولا وجود من يموله من تلك اللوبيات ويحمي أولائك الممولين. بل إن انتشار المخدرات صار سياسة إدارية متبعة تهدف من خلالها إلى ضمان السير العادي للمؤسسة بمفهومها الخاص بطبيعة الحال، وتخدير عقول السجناء عن أي مطالبة بحقوقها المهضومة.
الظلم منذر بالخراب، حكمة اجتماعية خلدونية وقاعدة من القواعد الحضارية للأمم والجماعات. والفساد ظلم والظلم فساد. فالفساد الذي تعرفه المؤسسة السجنية منذر بخرابها، وهذا الخراب يتجلى في الفوضى العارمة وانعدام الأمن اللذين أصبحا السمة الغالبة في سجوننا حيث لم يعد السجين العادي يأمن على حياته وممتلكاته، وانتشار ظاهرة العصابات المنظمة وسط السجناء المدعومة من طرف تلك اللوبيات المتنفذة. عصابات متخصصة في السرقة وأخرى في الاتجار في الأعراض وأخرى في التجسس وأخرى في القمار وهلم جرا.
والنتيجة انتشار اليأس بين السجناء وفقدان الأمل والثقة في أي مستقبل خاصة بعد اعتزال الإدارة لمهمة التربية والإصلاح وإعادة الإدماج الذي أصبحت تصم به الآذان في أيامنا الأخيرة. وإذا فقد الأمل فقدت الحياة وانتشرت ظاهرة الانتحار والاكتئاب المدمر والاختباء وراء التخدير والغيبوبة عن عالم الأحياء والسبح في عالم الخيال والأشباح، فيقع السجين في حلقة مفرغة لا يقوى على التحرر منها كلما حاول ذلك إلا وشدته إليها تلك القوة السحرية والمغناطيسية لأخطبوط الفساد.
إن هذا الواقع الذي أصبح بمثابة قنبلة موقوتة قد تنفجر في أية لحظة، لا يمكن أن يتغافله هؤلاء المسؤولون وينهجوا تجاهه سياسة النعامة، أو يحلموا بتغييره بضربة لازب أو بعصا سحرية، بل لا بد من مجابهة الواقع بشجاعة وصراحة مع الذات والوقوف عند مكامن الداء واستئصال هذا الورم الخبيث المسمى فسادا، وإلا فليحصدوا مزيدا من الخراب الذي إن عم واستفحل استحال نارا لا تبقي ولا تذر.