في الأوطان غرباء وفي وطني حيث الأحباب والأخلاء أحيى بذكرهم وأتنفس الصعداء، وكيف لا وهم من علموني الصبر على الأحبة في دار الفناء، وسقوني بكاسات دهاق من شوق اللقاء في دار البقاء، فأدركت حينها سر كلام من صاحب سيد الأتقياء. لما احتضر سيدنا بلال رضي الله عنه نادت امرأته: واحزناه! فقال: واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه.
شوق الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
لا غرابة في ذلك الشوق يا من سمعت خشخشته في الجنة، فكيف بك أن لا تشتاق للقاء في دار البقاء وقد ذقت من ذلك الترياق، ترياق المحبة الذي ذرفت له الدموع وخرست الألسن وتلوعت الأفئدة وتأججت القلوب شوقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. عن عبدة بنت خالد بن معدان قالت: ما كان خالد يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه من المهاجرين والانصار يسميهم ويقول: “هم أصلي وفصلي وإليهم يحن قلبي طال شوقي إليهم، فعجل رب قبضي إليك حتى يغلبه النوم”). وعن زيد بن أسلم خرج عمر رضي الله عنه ليلة يحرس الناس فرأى مصباحا في بيت، وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول:
على محمد صلاة الابرار
صلى عليه الطيبون الاخيار
قد كنت قواما بكا بالأسحار
يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار؟
تعني النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس عمر رضي الله عنه يبكي وفي الحكاية طول.
شوق الجدع لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ندرج شوق الجدع لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد ذاع صيته وانتشر خبره- لما في ذلك من عبر وعظات ومعان وغايات لعلها تحرك فينا ساكنا لذلك الشوق النبوي. قال الترمذي وحديث أنس صحيح قال جابر بن عبد الله: “كان المسجد مسقوفا على جدوع نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم على جدع منها، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجدع صوتا كصوت العشار”. وفي حديث بريدة “فقال يعني النبي صلى الله عليه وسلم: “إن شئت أردك إلى الحائط الذي كنت فيه، تنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة، فيأكل أولياء الله من ثمرك، ثم أصغى له النبي صلى الله عليه وسلم يستمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله، وأكون في مكان لا أبلى فيه، فسمعه من يليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد فعلت. ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء””. فكان الحسن إذا حدث بهذا بكى، وقال يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه لمكانه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. هذه القصة ندرك من خلالها أن التفاني في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والشوق إليه لم يقتصر على الصحابة فحسب بل حتى على الشجر والحجر والمدر. فأين شوقنا نحن من هذه الأشواق المتأججة للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
شوق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإخوانه
أفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوب الصحابة رضوان الله عليهم وأثلج صدورهم حين أخبرهم بما يلي: “روى الشيخان وغيرهما عن أنس أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: “وما أعددت لها”؟ قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله. قال: “أنت مع من أحببت””. قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم “أنت مع من أحببت” قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وإن لم أعمل أعمالهم. وتزف إلينا بشرى شوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أخبرنا عن طريقهم رضوان الله عليهم “اشتقت لإخواني، قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، إخواني قوم آمنوا بي ولم يروني يود أحدهم لو يفتديني بماله وولده كي يراني”.
يا لها من بشرى في زمن ذبلت فيه زهرة الحب النبوي!
بشرى تحرك فينا الساكن البارد الشارد، فنشتاق لمن اشتاق إلينا؛ فهل من سبيل إلى ذلك؟ لا سبيل إلا أن تصحب من اشتاق وذاق من ذاك الترياق ترياق المحبة والشوق، أن تصحب من يدلك على التوقان الأعظم ألا وهو محبة الله ورسوله. يقول الأستاد عبد السلام ياسين:
يا رب قيض قبل حين منيتي
عبدا منيبا أتخده خليلا
أنف الفؤاد من الحياة بدونكم
فمتى أصيب إلى الوصول سبيلا؟
ومتى تداركني عناية فضلكم
ومتى ألاقي في الطريق دليلا؟
اللهم ارزقني حبك وحب نبيك وحب من ينفعني حبه عندك.