أقدمت دولة المخزن في مطلع الموسم الجامعي سنة 1991-1992 على اعتقال ثلة من خيرة شباب الجامعة -أزيد من ستين طالبا من نشطاء فصيل طلبة العدل والإحسان بجامعة وجدة- ظلما وعدوانا، وتعريضهم لأقسى أصناف التعذيب، ولاعتداءات لا تخطر على بال بشر ابتداء من اللحظة الأولى للاعتقال، ومرورا بفترة التحقيق التي سامنا فيها زبانية المخزن سوء العذاب، والتي توجت بالحكم علينا بأكثر من ثلاثة قرون سجنا نافذا وخمسة أحكام بالسجن المؤبد غيابيا -كان نصيبنا منها نحن الإثني عشر عشرين سنة لكل واحد منا-، وانتهاء بفترة الاعتقال التي امتدت لأزيد من عقد من الزمن.
وقد تلقينا هذا الابتلاء بصدر رحب، وبقلوب راضية مطمئنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن”.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، فقد أوذي في الله إيذاء شديدا، وأدميت قدماه، وجرح، وكسرت ثنيته، وشج وجهه، وطرد من مكة وقتل أصحابه ونكل بهم… صبر، ولبى نداء ربه فكان النصر حليفه، إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
والحقيقة أن الشدائد تقرب إلى الله تعالى، وتحيي القلوب، وتذكر العبد بأنه ضعيف بنفسه، وقوي بالله ما تمسك بحبله المتين. وهي طريق الاجتباء والاصطفاء ونيل المحبوبية متى قوبلت بالرضا والتسليم، ففي الحديث: “إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط”، وفي حديث آخر رواه الترمذي “إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط”.
ولسنا أول من يبتلى، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، وليعلمن الله الذين صدقوا، وليعلمن الكاذبين، وواجب المبتلى أن يصبر، قال تعالى: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، فلن يغلب عسر يسرين فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا
تعذيب شديد ومعاناة قلما نذكرها ونتحدث بها لاحتسابنا الأمر لله تعالى فالدنيا ساعة وتمضي، ومن أصيب هنا يثاب هناك سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، لكنني أجدني مضطرا لسردها والتذكير بها لاعتبارها جرائم ارتكبها في حقنا المخزن، فينبغي أن نوثقها ونكشفها ونضعها بين يدي الرأي العام، والمنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان الدولية والمحلية المحايدة غير الأسيرة لتعليمات المخزن أو لخلفيات سياسية ضيقة، وهي جمعيات تستحق كل التقدير لاعتنائها بهذه الانتهاكات بغض النظر عن أصحابها وانتماءاتهم وقناعاتهم.
مأساة نسجلها للتاريخ ونعرف بها الأجيال القادمة التي ستحصد وستنعم بما تزرعه العدل والإحسان اليوم من بذل وتضحيات ثمنا لتحرير الشعب المستضعف من قبضة الاستبداد والطغيان. ففضحنا ونشرنا لما جاد به علينا المخزن من سوء العذاب إنما هو فضح لتلك العقلية العتيقة المستهترة بالإنسان وكرامته، ومساهمة في تغييرها أو طردها من بين ظهرانينا.
تعذيب ومعاملة قاسية أعجز عن وصفهما إذ لا تسعفني الكلمات للتعبير عما عايشته وشاهدته، ولكن حسبي أن أشير إلى بعض ملامح ذلك الابتلاء الذي نسأل الله تعالى أن يدخر لنا ثوابه ليوم تجزى كل نفس بما كسبت
فالتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية واللاإنسانية أو المهينة اعتداء على كرامة الإنسان التي منحها الله إياه. وسلوك غير متحضر. حرمه ديننا الحنيف، وأعده فعلا شنيعا يستوجب صاحبه العقاب. وهو يعتبر من الاعتداءات الجسيمة التي تشكل انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان، لذا أدانه وحظره المجتمع الدولي وكل المواثيق الدولية حيث نصت المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب، ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة). وجاء في المادة العاشرة -الفقرة 5-1- من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: يعامل جميع الأشخاص المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية تحترم الكرامة الأصيلة في شخص الإنسان)، وتنص المادة الرابعة منه على عدم جواز تقييد الحق في عدم التعرض للتعذيب حتى باسم حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة).
ويقصد بالتعذيب في القوانين الدولية أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول على معلومات أو اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه أنه ارتكبه.
ورغم مصادقة المغرب على هذه القوانين فإن الكثيرين من أبناء هذا الوطن ذاقوا مرارة الاضطهاد.
والملاحظ أن هناك قواسم مشتركة بين جل الاعتقالات السياسية التي شهدتها بلادنا، فجل المعتقلين يتعرضون لتعذيب بشع يترتب عنه آثار سلبية قد تصل إلى عجز جسدي في أحد الأعضاء، أو اضطراب نفسي وغيرهما. أما الجلادون المنفذون للتعذيب، أو المخططون والآمرون فهم دائما في منأى عن المساءلة القانونية، ولا يتعرضون لأية متابعة قضائية أو إدانة.
سأخصص هذه الحلقة للحديث عن التعذيب المنظم الذي ذقنا مرارته أثناء الاعتقال، على أن نتواصل عبر حلقات أخرى للتعريف بتعذيب فترة التحقيق الأشد شراسة، والتعذيب المنظم الذي تعرضنا له داخل المعتقل.
التعذيب المنظم أثناء الاعتقال
أرجع بالذاكرة إذن إلى سنة 1991 التي كانت بداية الطلاق مع الحياة الطليقة التي كنت أحياها بكل ما فيها من حيوية ونشاط، وحرية نسبية وتفان في خدمة الطلبة والدفاع عن حقوقهم، ونضال واجتهاد وأحلام وطموحات وذكريات… حينها امتدت إلينا أيادي آثمة واختطفتنا من داخل بيوتنا.
فما زلت أتذكر ذلك اليوم الذي اعتقلنا فيه، كان يوم جمعة، لذا قصدت رفقة أحد الإخوة مسجدا قريبا من الجامعة لأداء صلاة الجمعة، ولاحظت أمرا غير معتاد، فرجال البوليس السري منتشرون في كل الشوارع الموصلة إلى المسجد، يحملقون في الإخوة الطلبة وكأني بهم يحصون عددهم، وكنا قد ألفنا استفزازات أولئك الخفافيش المعروفين بـ”الحنوش” نسبة إلى الأفاعي، ومطارداتهم واعتداءاتهم علينا خلال مرحلة النضال داخل الجامعة. غير أنني لم أكن أدري ما يخبئه لنا القدر، ولا ما يبيته المخزن وشركاؤه. لم أكن أعلم أنني سأجد نفسي يوما ما وراء القضبان بتهم باطلة وملفقة.
لقد كانوا يخططون للهجوم واقتحام المنازل التي يقطنها بعض الإخوة الطلبة من العدل والإحسان.
استمعنا لخطبة الجمعة التي أشار فيها الخطيب إلى أثر الإيمان في تزكية النفوس، وكان قد تحدث في خطب سابقة عما يحدث في جامعة وجدة من انتهاك لحرمة المسجد والقرآن الكريم، ودعا السلطات إلى الخروج من صمتها والقيام بواجبها في حماية دين الله من عبث العابثين. فاعتقل بدوره على كبر سنه وأخلي سبيله فيما بعد.
عدنا إلى منازلنا آمنين، وفي مساء نفس اليوم شرعت قوات الأمن بكل أشكالها -قوات التدخل السريع، القوات المساعدة، البوليس السري وأجهزة المخابرات والشرطة، ورجال المطافئ..- في محاصرة حي القدس بمدينة وجدة، تلاه حصار خاص لبعض المساكن التي كانت مراقبة وعلموا أن قاطنيها من طلبة العدل والإحسان.
ومن لطف الأقدار أنهم لم يتعرفوا على كل المنازل التي يقطنها الإخوة الطلبة، فضلا على أن معظمهم غادروا الجامعة، وعادوا إلى ذويهم لقضاء عطلة عيد المسيرة الخضراء، وإلا لاعتقلت السلطات العشرات منهم بسبب انتمائهم ونشاطهم في صفوف العدل والإحسان.
داهمت قوات الأمن هذه المنازل المعروفة بعد أن انتظمت على شكل مجموعات صغيرة مدججة بالهراوات. اقتحمتها بشكل مفاجئ وبكل وحشية بعد أن كسرت أبوابها على الطريقة التي تنفذ بها سلطات الاحتلال هجوماتها ومداهماتها للبيوت الفلسطينية.
كانوا يصرخون بأعلى صوت صراخا لا يشبه صوت بشر لو توالى دون توقف لأثقب طبلة الأذن، ويضربون بالعصي كل ما يجدونه أمامهم لبث الفزع، وإثارة الذعر في نفوسنا، وما أن يلقوا القبض على أحد الإخوة حتى يشبعوه ضربا بالعصي في جميع أنحاء الجسد مستخدمين جميع الوسائل التي أتيحت لهم من ركل وصفع… لقد تعرضنا لممارسات وحشية، وعوملنا كأننا حيوانات ضارة. فالعنف المخزني ليس له مقدمات إذ يبدأ منذ اللحظة الأولى للانقضاض على المعتقل.
وهكذا اختطفوا أحد الإخوة من داخل فراشه بعد أن أيقظوه من النوم بطريقتهم الخاصة، واقتحم باب المرحاض على آخر واختطف دون السماح له بقضاء حاجته، وآخر انقضوا عليه داخل المطبخ. بينما وجدوني في بيت رفقة طفل لا يتجاوز عمره أربع سنوات، وعمره الآن ثمانية عشر عاما، وهو أحد جيراننا، كان يحب الإخوة ألفهم ويجد فيهم مبتغاه. يغادر أمه ولا يجد راحته إلا بين أيديهم. كنت أعلمه الكتابة حين فاجأني ثلاثة من الجلادين مشهرين في وجهي عصيهم. التفوا حولي وبسرعة فائقة وفي لحظات لم أتمكن خلالها من التقاط أنفاسي كانوا قد أسقطوني أرضا، وأوثقوا يدي بالأصفاد، وشرعوا في ركلي وضربي بعصي غليظة تقتحم جسدي بلا رحمة ولا شفقة، ومع كل ضربة وصفعة كانت تطرق أذني شتيمة جديدة ووصف الله تعالى جل شأنه بألفاظ تتزلزل لها السموات السبع والأرضون. أما الطفل المسكين فقد تابع المشهد وظل مذعورا. تغيرت ملامح وجهه وبدت عليه علامات السخط.
اصطف زبانية المخزن على يمين وشمال ممر المنزل المؤدي إلى الباب، فكان كل من يمر بين أيديهم يسومونه سوء العذاب إلى أن ألقي بي في أرضية سيارة الشرطة بكل إهانة والتي وجدت فيها بعض الإخوة في حالة مأساوية: ملابسهم ممزقة وملطخة بالدماء من جراء الضرب العشوائي الذي لا يفرق بين أعضاء الجسد، وكأن وحوشا كاسرة قد افترستهم.
وبعد مداهمة العديد من المنازل، واعتقال من وجد فيها ظل بداخلها مجموعة من رجال البوليس يمارسون عمل العصابات الإجرامية حيث فتشوها وعبثوا بأمتعتنا، وسرقوا ممتلكاتنا، وكل ما وقعت عليه أيديهم من نقود أو كتب أو أشرطة أو ملابس جديدة… ممارسات تثير علامات استفهام كثيرة حول موقع القانون في دولة المخزن التي تتبجح بمناسبة وغير مناسبة باحترام حقوق الإنسان.
المعتقل السياسي مصطفى حسيني
أحد معتقلي العدل والإحسان الإثني عشر
حرر بالزنزانة 5 بسجن فاس