مخافر الشرطة في بلادنا هي بمثابة أقبية ومراكز للتعذيب، وانتهاك حرمة الإنسان حيث تستغل مدة الحراسة النظرية التي يحقق فيها مع المعتقل لإذاقته كل أصناف الإهانة والإذلال والاعتداء. فقد تم الانقضاض علينا واعتقالنا مساء يوم الجمعة 1/11/91 في السادسة مساء ولم نحل على الوكيل العام للملك إلا يوم الخميس7/11/91 في العاشرة صباحا مما يعد خرقا صريحا لمقتضيات القانون إذ تنص المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية على أنه يمكن وضع أشخاص، إذا اقتضت ضرورة البحث ذلك، تحت الحراسة النظرية لمدة 48 ساعة تحتسب ابتداء من ساعة توقيفهم، ويمكن بإذن كتابي من النيابة العامة لضرورة البحث تمديد مدة الحراسة لمرة واحدة أربعا وعشرين ساعة ما لم يتعلق الأمر بقضايا خاصة -الجريمة الإرهابية…-
فمرحلة الاعتقال والتحقيق محطة تستغلها السلطات المخزنية لتعذيب المعتقلين السياسيين وإهانتهم، ولهذا أشارت المنظمات الحقوقية الدولية إلى هذا الخطر، وسعت إلى وضع ضمانات قصد حماية الضحايا المحتملين خلال هذه الفترة، والتقليل من فرص حدوث التعذيب إلى أدنى حد ممكن. وقد أوجدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة سلسلة من الضمانات والإجراءات المتعلقة بالحجز منها مجموعة المبادئ الخاصة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، والإعلان المرتبط بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، فضلا عن توصيات مهمة أصدرتها لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة. أما اللجنة الأوربية لمنع التعذيب فقد أعدت ثلاث ضمانات جوهرية ضد إساءة معاملة الأشخاص في الحجز، ويجب أن تطبق منذ اللحظة الأولى للاعتقال، وتدرجها بصورة منتظمة في التوصيات التي ترفعها إلى الدول، وقد جرت صياغتها على النحو التالي: تورد اللجنة الأوربية لمنع التعذيب أن تعيد إلى الذاكرة الأهمية الخاصة التي تعلقها على ثلاثة حقوق للأشخاص الذين تعتقلهم الشرطة:
– حق المعنيين في إبلاغ حقيقة اعتقالهم إلى شخص قريب أو إلى طرف ثالث يختارونه بأنفسهم.
– حق الاستعانة بمحام.
– الحق في فحص طبي يجريه طبيب يختارونه بأنفسهم.)
وقد تجاوبت السلطات أثناء اعتقالنا بشكل كبير مع هذه الضمانات، لكن بأسلوب مخزني خالص. فبدل أن يعمد وكلاؤها الجلادون إلى إبلاغ عائلات المعتقلين أخذوا يتربصون لاعتقال كل من خولت له نفسه الاقتراب من هذا المركز الجهنمي للسؤال عن مصير ابنه أو أخيه. ونشر الرعب في مدينة وجدة طيلة الأيام التي تلت اعتقالنا، واختطف إخوة آخرون من مقر سكناهم، أو من داخل المساجد والمؤسسات التعليمية.
أما الحق أو الضمانة الثانية فقد تفهمها المخزن واستعان بدل المحامين وبجلادين يشبهون مخلوقات تنتمي إلى العصور القديمة انقرضت واختفت منذ أمد بعيد وها هي ذا تعود فجأة إلى الوجود. أما الحق الثالث فقد أعفى المخزن الأطباء من عناء المجيء إلى المخفر وتولى الجلادون أنفسهم الفحص بطريقتهم الخاصة حيث لم يسلم أحد من تعذيبهم واعتدائهم، بل كادوا يبترون أذن أحد الإخوة من جراء الضرب الذي لا يفرق بين أعضاء الجسد.
كانت الأيام التي قضيناها داخل مخفر الشرطة بكل لحظاتها مناسبة سعيدة للحجاج الجلادين ليتفننوا في إبداع مختلف أشكال التعذيب التي ترضيهم وتريح رؤساءهم.
فحين تتمعن فيما صدر عن هؤلاء من وحشية تخال نفسك أمام بشر من نوع شاذ بقلوب قاسية كأنها جمرات من الخبث استعيرت من جهنم.
فالليلة الأولى قضيناها مجبرين على السجود على الحصى -13 ساعة متواصلة- دون أن تقدم أية إسعافات أولية للإخوة المجروحين والمصابين بالضرب في رؤوسهم. وفي صبيحة يوم السبت حضر مختلف مسؤولي المخابرات الذين تميزوا بلباس أنيق وببطون منتفخة تدل على أنهم ليسوا من خفافيش الظلام العادية، وبعد أن أمطرونا بوابل من السب والشتم والإهانة أمرونا بالوقوف فردا فردا، وبمجرد أن يقف المعتقل ويحاول فتح عينيه تنزل عليه صفعات قوية، وتأتيه اللكمات من كل جانب، وتصفد يديه وتعصب عينيه. ليتأتى لهم بعد ذلك أن يلعبوا برأسه ويحركونه كما يحلو لهم، فيمسكون بذقنه أو لحيته، وقد يجرون الرأس إلى الأمام أو الوراء حسب رغباتهم ومزاجهم، ولا تفوتهم الفرصة دون شتم آبائنا وأجدادنا ولعن أساتذتنا ومربينا… والحقيقة أن الإنسان أكرمه الله سبحانه وتعالى ورفع من شأنه وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة فعجبا كيف يتحول إلى حيوان كاسر يبدع كل الطرق التي لا تخطر على بال إبليس لإيذاء الآخرين وتعذيبهم وإهانتهم.
وبعد أن حيونا بتحيتهم الخاصة هاته وأشبعوا رغباتهم العدوانية سألوا كل أخ أسئلة أولية حول هويته واسم والديه ومحل سكناه ومهنته، وقد استطعنا في تلك اللحظات العصيبة التعرف على بعض من كانوا يعدون أنفسهم مناضلين ومتشبعين بالفكر الثوري يعملون جنبا إلى جنب مع الجلادين لعزل طلبة العدل والإحسان الأكثر بروزا في الساحة الجامعية.
بعد أخذ هويتي سلمت لجلادين تكلفا بنقلي إلى مكان آخر، وأمرت، وأنا معصب العينين، بالمشي رويدا رويدا وببطء كي لا أقع في حفر توجد في طريقنا حسب قولهما، فتقدمت خطوة خطوة، وكأني بالزمن حبس أنفاسه، وتحولت اللحظة إلى أيام إذ تشعر أنك قد تسقط في أية لحظة في حفرة، وتصاب بكسور ويرتطم وجهك ورأسك بالأرض. فوضت أمري لله وواصلت الطريق بحذر إلى أن أجلست على الأرض في قاعة كبيرة رفقة بعض الإخوة ليتبين أن ادعاءهم وجود حفر في الطريق مجرد مسرحية وكذبة يبتغون بها تعذيب المعتقل نفسيا مما يعكس بشاعة هؤلاء الزبانية ومدى استهتارهم بحياة الإنسان وكرامته.
ثم شرعوا في الضرب العشوائي المرفوق بصراخ متواصل. وكان المفروض وفق ما هو مدون في المحاضر أن لا يجرى التحقيق يومي الجمعة والسبت باعتبارهما يومي عطلة. وأخذت هويتنا من جديد، وبصماتنا وصورنا. صور تشهد على بشاعة ما تعرضنا له من اعتداء حيث الوجوه منتفخة والثياب ممزقة. ثم وزعنا على ثلاثة زنازن بمعدل أزيد من عشرين فردا في كل زنزانة لا يتسع حجم الواحدة منها لفردين -2م/2م-. وظللنا طيلة فترة الحراسة النظرية على هذا الحال دون نوم ولا أكل، جالسين على أرض إسمنتية باردة محرومين من الأغطية، ولا زلت أتذكر كيف اخترق البرد الشديد عظامي إلى درجة أن “تخدرت”رجلي وبعض أطراف جسدي وفقدت الإحساس بها. وكان بجوارنا، خارج الزنزانة، مرحاض تفوح منه رائحة كريهة نتحملها رغم أنفنا، ولا يسمح لنا بالاستفادة منه إلا بعد طلب الإذن وطول الانتظار.
وبينما نحن في هذا الوضع المأساوي كانت التعليمات قد سرت إلى التلفزة المغربية، القناة الأولى، التي أصدرت علينا حكمها بالإدانة ونحن لم نعرض بعد على القضاء مما يعد خرقا سافرا للقانون. كما حاولت الإساءة إلى جماعة العدل والإحسان التي ننتمي إليها وتشويه صورتنا واصفة إيانا بمختلف النعوت القادحة.
لقد كان الجلادون يأتون من وقت لآخر لأخذ أخ أو أكثر إلى قاعة التعذيب، فتصلنا أحيانا أصداء الجلد والسلخ فنتوجه إلى الله سبحانه نستمطر رحمته ولطفه، فما حيلة العبد الفقير إذا احتوشته المصائب غير اللجوء إلى من يتوسل إليه في الكربات، ويفزع إليه في الملمات “أمن يجيب المضطر إذا دعاه”. وقد لمسنا لطف الله عز وجل إذ لم نكن نحس بالألم رغم بشاعة التعذيب الذي ليس بمقدور الإنسان تحمله، فكما قال شوقي: وإذا العناية لاحظتك عيونها
نم فالحوادث كلهن أمانفي إحدى جلسات التعذيب حرر لي فيها محضر، فطلبت الاطلاع على فحواه فإذا بأحدهم يواجهني بوابل من الكلام الساقط ويجبرني على البصم.
غير أن أحد الضباط أعاد قراءته فقطعه أمامي بسبب ما ورد فيه من كلام غير منطقي وتناقضات تكشف عن زيفه ونقلوني إلى غرفة باردة في عزلة تامة لمدة أربع ساعات، ثم أعدت إلى قاعة التحقيق لأشبع سبا وضربا وأجبر من جديد على البصم على بياض.
ورغم تحرير محاضر الشرطة القضائية لمعظم الإخوة وإرغامهم على البصم عليها ظل هؤلاء يطلبون من حين لآخر لينالوا ما تيسر من الضرب والركل والتعذيب، وبعض الحجاج وصلت بهم الوقاحة إلى حد السؤال عن عمر الأخ فإذا أخبرهم أنه في العشرينيات من عمره أجابوه “غتغبر دين مك وتخرج في الثلاثين أو الأربعين”، ويتبعون ذلك بضحكات ساخرة وشتم وصياح.
كان هذا الأسبوع بمثابة رباط أقبل فيه الإخوة على الله عز وجل، راضين بصنيعه، متوكلين عليه، واثقين بوعده ونصره وبما عنده، وما عنده خير وأبقى، ألسنتهم تلهج بذكر الله، وقراءة القرآن، صائمين قائمين صابرين محتسبين فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم.
اختلطت علينا خلال هذه الأيام معالم الليل والنهار، ولم نكن نميز بينهما إلا بالأذان الذي يصلنا من المسجد المجاور والذي كان يثبتنا ويذكرنا بأن الله أكبر، يد الله فوق أيديهم. أما التعذيب فلم يهدأ ليل نهار، وسبب ذلك يعود ربما إلى أن أجهزة المخابرات التي استجوبتنا لم تنسق فيما بينها. فكل جهاز يأتي زبانيته لوحدهم، ولأهداف معينة، وقد يستنطق الأخ من الجهاز الواحد مرات عديدة، بعض هؤلاء جاء لأخذ معلومات تنظيمية تتعلق بالعدل والإحسان والأنشطة الطلابية ورموزها، وكانوا يعاملوننا دائما على أننا نخبئ عنهم أسماء وأنشطة وخطط رغم أن مشروع العدل والإحسان كان واضحا ويعرفه الخاص والعام. فالمهم لديهم هو أن ننال ما يكفي من التعذيب والتنكيل. وبعض الجلادين عبروا بصريح العبارة أنهم جاؤوا لتأديبنا حتى إذا خرجنا من السجن “ندخلو سوق راسنا”، أي أنهم جاؤوا لترهيبنا وكسر عزيمتنا حتى لا نواصل مسيرتنا الدعوية والنضالية في حالة تبرئتنا، أو بعد الخروج من السجن. وآخرون كانوا يودون بتعذيبنا الوحشي بعث رسائل إلى خارج المعتقل، وبث الرعب في صفوف باقي رجال ونساء العدل والإحسان، وإلى كل من يبغي الالتحاق بهم معلنين عما ينتظرهم من عذاب أليم وسجن واعتقال تنفيرا لهم وترهيبا. وما يؤكد هذه الحقائق أن المحاضر زورت ودونوا فيها مبتغاهم، فكان بإمكانهم الزج بنا في السجن لمدد طويلة دون أن يعذبوننا، ويبذلوا ذلك الجهد الجبار في عمل سخيف شنيع وقح. لكنهم ساء ما يحكمون، فقد انقلب السحر على الساحر. فرغم ما تعرضنا له من جرائم، سنتناولها في حلقة مقبلة إن شاء الله، ما زالت بعض آثارها قائمة لحد الآن لم نحد بحمد الله عن مبادئنا، وما زلنا لمشروع العدل والإحسان مخلصين، ولهم الأمة حاملين.
ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين صدق الله العظيم.
المعتقل السياسي مصطفى حسيني
أحد معتقلي العدل والإحسان الإثني عشر
حرر بالزنزانة 5 بسجن فاس