تقديم
لقد شكلت بداية هذه السنة 2011 تحولا استراتيجيا كبيرا في العالم العربي عموما خلف انعكاسات جارية ومستقبلية ليس فقط على مستوى المنطقة العربية بل على صعيد العالم كله. فقد استهلت بالثورة التونسية التي أسقطت أحد أعتى الأنظمة البوليسية المستكبرة في العالم العربي، نظام بنعلي، ثم تلتها مباشرة الثورة المصرية التي أطاحت بعرش نظام سياسي عربي آخر كان يعد إلى وقت قريب الراعي الأول لمصالح أمريكا وإسرائيل في المنطقة والأكثر تذليلا وحماية من طرف سادته. ثم سرى بعد ذلك الاحتجاج على مظاهر الظلم والقهر في أغلب البلدان العربية سريان النار في الهشيم. وهكذا صارت مألوفة مشاهد المسيرات والوقفات والاعتصامات الاحتجاجية التي غزت الشارع العربي والتي انخرط فيها الآلاف من المواطنين من مختلف الأعمار والحيثيات.
وقد أثارت هذه الأحداث انتباه العالم لتداخل المصالح وللقيمة الإستراتيجية للمنطقة فكثرت المتابعات الإعلامية والتحليلات الصحفية وتنوعت الدراسات التحليلية والبحوث الميدانية التي تحاول أن تستكشف وترصد وتستشرف آفاق هذا الحراك ومآلاته.
وإذا كنا نحن، طلائعَ هذه الأمة، مطالَبين بإلحاح بالسعي للاستفادة من الأحداث وحسن قراءتها بما يخدم المصالح الإستراتيجية لأمتنا وبما يحقق وحدتها ونهضتها، فلا يجب مع ذلك أن يستغرقنا تأمل الواقع بتفاصيله اليومية بل علينا دراسته من عَلٍ، من منظار كتاب الله وسنة رسوله أولا ثم استخلاص العبر وحسن استثمار النتائج بما يخدم مستقبل الإسلام.
في هذا العرض البسيط سأركز على استجلاء ثلاثة محاور أساسية، هي أولا طبيعة هذا الحراك الشعبي وأبرز سماته وخصائصه، ثم نتناول بعد ذلك الأسباب الجوهرية التي كانت وراء تشكله لنختم باستشراف مآلاته وآفاقه.
في طبيعة الحراك الشعبي
تجدر الإشارة في البدء إلى أن الحراك الشعبي المعتمل الآن في المجتمعات العربية يختلف في حيثياته وظروفه وأساليبه من بلد لآخر. فليس هناك تماه كامل بين تجارب مختلف الحركات الاحتجاجية إذ لكل مجتمع خصوصياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فضلا عن طبيعة الأنظمة الحاكمة وأساليب مواجهتها لمطالب شعوبها بين حرب الإبادة كما هو الشأن في ليبيا وسوريا وبين القمع غير المفرط واعتماد سياسة الاحتواء والالتفاف على المطالب وتشويه السمعة في باقي البلدان. بالرغم من هذه التباينات يمكن للباحث أن يرصد وجود قواسم مشتركة بين مختلف تجارب الحراك الشعبي العربي إذ هناك أيضا تشابه في السياق والأسباب ومعظم المطالب وجل أساليب الاحتجاج ووسائله. بمعنى آخر نستطيع من خلال جمع هذه السمات المشتركة الخروج بصورة دقيقة حول طبيعة هذا الحراك وخصائصه.
ويمكن تصنيف هذه الخصائص كما يلي:
1/ شبابية الثورات والانتفاضات العربية
فالفئة الاجتماعية التي كانت لها الريادة في هذه التحركات الشعبية بدءا بإعطاء شرارة انطلاقها ثم توجيهها وقيادتها فحماية مكتسباتها هم شباب الأمة رجالا ونساء. كما كان الفضل للشباب في تعبئة الفئات الاجتماعية المختلفة للانخراط في الثورة بل بذلوا في سبيل تحقيق أهدافها التضحيات الجسام. وهذه سمة حاضرة في كل الانتفاضات الحالية في معظم البلدان العربية. وهي سنة الله في التغيير، إذ إن الشباب يضطلعون دائما بأدوار طلائعية في عمليات التغيير. وقد كان هذا شأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم: “نصرني الشباب وخذلني الشيوخ.”
2/ سلمية الثورة
وهو مبدأ طبع معظم التحركات الشعبية المطالبة بالتغيير الجذري في التجارب العربية الحالية وهو أشد ما حرصت على تكريسه والحفاظ عليه الشعوب المنتفضة ضد الظلم والفساد رغم بطش الحكام العرب وتصديهم لمطالب شعوبهم بالحديد والنار والدعاية والافتراء. والاستثناء الوحيد في هذا الصدد هو وضعية الثورة الليبية التي انطلقت سلمية، لكن بطش الطاغية أجبر الشعب الثائر على اللجوء إلى السلاح للدفاع عن النفس والعِرض ووحدة الوطن. وقد تعرضت كل الثورات والحركات الاحتجاجية لامتحان عسير حول سلميتها إذ تبذل الأنظمة العربية كل جهودها وتوظف جميع أساليبها (من عنف وبلطجة) لاستدراج الشعوب للرد على العنف الممارس عليها، إلا أن إصرار الثوار على مبدأ السلمية كان أكبر من إغراءات السلطات رغم فداحة التضحيات وحجم الخسائر في الأرواح والأعراض والمصالح. ولنا في تجربة الشعب اليمني الشقيق أعظم العبرة على رسوخ هذا المبدأ في احتجاجات الشعوب، فعلى الرغم من انتشار السلاح على مستوى واسع في المجتمع اليمني (ستون مليون قطعة سلاح) إلا أن الثوار لم يستسلموا للانتهاكات الفظيعة التي قام بها نظام علي صالح في حقهم وأصروا على سلمية ثورتهم إلى الآن وقدموا في سبيل ذلك العشرات من الشهداء والآلاف من الجرحى.
3/ موحِدة لكل أو معظم أطياف البلد الواحد رغم اختلاف انتماءاتهم السياسية واختياراتهم الإيديلوجية والدينية
فقد ضربت هذه الثورات الشعبية العربية أروع مثال في التحام غالبية أبناء البلد الواحد واصطفافهم تحت شعارات موحدة: العدل والكرامة والحرية. وهذا ما وفر فرصة تاريخية لتذويب كثير من سوء الفهم بين مختلف النخب ـ الذي صنعته الأنظمة الحاكمة واستثمرت فيه زمانا على نطاق واسع في إطار ما يعرف بسياسة “فرق تسد” ـ كما هيأ ظروف تعميق التواصل والحوار والالتقاء على المشترك وتغليب مصلحة الوطن على المصالح السياسية الفئوية أو الخاصة. وهذا ما قد يؤسس لميثاق يجمع الإرادات الوطنية الصادقة لتؤسس لمرحلة ما بعد زوال أنظمة الاستبداد والعمالة لمصالح الغرب والفاقدة لكل شرعية أو مشروعية.
4/ مطالب متشابهة في عمومها يجمعها شعار واحد وإن اختلفت تفاصيله
الشعب يريد الحرية والعدل والكرامة. فكل الشعوب المنتفضة خرجت تطالب بتحقيق هذا الشعار. وبالرغم من وجود مطالب أخرى فئوية أو جزئية (سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية) إلا أن سقف هذه المطالب والجامع لها هو شعار الحرية والعدل والكرامة. ولعل هذا ما يفسر توجه كل التحركات الشعبية إلى رأس السلطة في العالم العربي مطالبة إما بتنحيه (ارحل) أو إصلاحه بشكل جذري باعتباره المصدر الأساس لكل الاختلالات التي تعيشها الشعوب وتغرق فيها الأوطان.
5/ الخاصية الخامسة لهذا الحراك الشعبي، فضلا عما ذكر، هو التوظيف الواسع لوسائل الاتصال والتواصل الإلكتروني وتوظيف مكثف وذكي لشبكات التواصل الاجتماعي عبر النت
(feacbook وtwiter وyoutube) يضاف إلى هذا إنتاج كم هائل من المواد الإعلامية التوثيقية أو التعبوية وتوزيعها على أوسع نطاق. وقد مكنت هذه الجهود الإعلامية من توسيع دائرة المنخرطين والمتابعين للحراك الشعبي بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أتاحت فرصة كسر طوق الحصار الإعلامي التي حاولت وتحاول الأنظمة العربية ضربه حول التحركات الاحتجاجية ليتسنى لها احتكار المعلومة وتسويق الصورة المشوهة التي تريد تصريفها عن ثورة الشعوب وتسهيل تأثير الدعاية المضادة في الجماهير ضد الثوار وبالتالي عزل هؤلاء سياسيا واجتماعيا مما ييسر عملية قمعهم وإخماد ثورتهم وضمان عدم تغذيتها من خلال الحيلولة دون انخراط فئات شعبية أوسع فيها. إلا أن هذا المسعى لم يتحقق بالشكل المطلوب مما أعطى الريادة والسبق لشباب الفايسبوك وتويتر.
إجمالا يمكن القول أن هذه السمات الخمس المشتركة يسهل رصدها في كل الثورات العربية القائمة لحد الآن وهي تمثل قواسم مشتركة ناتجة من وجود تقاربات بين المجتمعات العربية على مستوى الدين واللغة وغالبية السمات الثقافية والمشهد السياسي المتسم بالاستبداد والغارق في الفساد.